Wednesday, May 23, 2007
قصص من العراق الحزين
الثلاثاء 22 أيار 2007
السلام عليكم
عندما كنت في بغداد فترة الحرب وبعدها , كانت الكتابة بالنسبة لي على موقعي هذا ,
بند مهم من طقوس حياتي اليومية...
كنت اذهب للعمل كل يوم , واعود لأعتني ببيتي وعائلتي, لكن الكتابة كانت بالنسبة لي موضوعا مهما ينبغي انجازه كل يوم او يومين, كأنه جزء من مسؤوليتي لأخبر العالم ماذا يحصل لنا وكيف نعيش أيامنا...
لكن سبحان الله , الناس يتعبون من الكلام والحديث نفسه يصبح مكررا ومملا..
وأنا لا احب ان العب هذا الدور الممل,
كل يوم أعيد وأكرر نفس الكلام كما تفعل الصحف ومحطات التلفزيون والاذاعة ,
احيانا الناس يتوقفون عن السماع والمشاهدة, كل شيء يغيظ ويحبط ...
الان ,صارت الكتابة على موقعي بالنسبة لي هي شيء منسي في برنامج حياتي اليومي...
لأنني مشغولة بالعمل للعراق,
احاول أن اطرق كل الابواب و اتنازل عن كبريائي الشخصي ,
لأنني اطلب مساعدة للعراقيين, وليست مساعدة شخصية لي او لعائلتي, الحمد لله عندنا كل شيء ,
لكن العراق فقد كل شيء...
فقد أمنه واستقراره ,ومستقبله مازال يتخبط في ظلمات ودماء...
وفقد خيرة رجاله ونسائه المثقفين المخلصين إما هربوا منه خوفا على حياتهم, او تم اغتيالهم , أو مازال بعضهم يعيش هناك حيث يصبح ويمسي مع الموت...
أية حياة هذه؟
ولكننا دائما نقول : الحمد لله على كل حال , هذه إرادة رب العالمين وليست ارادة بوش, والمصائب التي حدثت للعراق كتبها علينا رب العالمين, وهذا امتحان قاس لنا جميعا..
وخلال هذا الامتحان ,
فالبعض اختار ان يسرق وينهب ويقتل ويخون , والبعض ظل مؤمنا متمسكا بقناعاته وظل قوي القلب وشجاع , يحب العراق وأهله ويفعل المستحيل من اجل مساعدتهم في محنتهم ,
والبعض تخاذل وقال ان العراق لن يعود ابدا , فهرب وطلب اللجوء الانساني او الهجرة
وتنازل عن الجنسية العراقية , لا يريد ان تلاحقه لعنة أنه عراقي ...
والبعض ذهب ضحية العنف اليومي دون قرار منه او رغبة ....
***********************************************
الاسابيع الماضية كانت مميزة بالنسبة لي..
قضيت بعضها في لقاءات مع عراقيين هنا يعيشون في عمان لأعرف احوالهم واكتب عنهم تقريرا لمنظمة معينة..
وقضيت وقتا اخر التقيت فيه بأطباء قادمين من بغداد , ومن خلال عملي لارسال اجهزة تعقيم مياه للمستشفيات فأنهم يعرفون تلفوني هنا, وعندما يصلون الى عمان في زيارة قصيرة, التقيهم واسمع منهم كيف هي احوالهم هناك , ثم اودعهم وقلبي مملوء بالحزن على العراق كله , وليس على شخص محدد...
والتقيت قريبتي التي مات زوجها بسبب ظلم نظام صدام حسين وسمعت قصتها كاملة ..
واتصلت ببغداد لأسمع قصة صديق العائلة الذي خطفته عصابة من الشرطة ثم هرب منهم باعجوبة , تكلمت معه على الهاتف وقلت له الحمد لله على السلامة ...
كل القصص متشابكة واحيانا متناقضة , لكنها تحكي عن حال العراق الحزين اليوم
وحال شعب العراق الحزين , كأنهم يتقلبون في النيران , ويهربون من نار الى اخرى..
من نار القتل اليومي والخطف والرعب, الى نار الغربة في دول الجوار ومعاناة وذل
لا يوصفان , بلا اقامة شرعية, بلا حق عمل, بلا حق تعليم لاولادهم , والعلاج المجاني الى حد ما توفره بعض المنظمات , لكن بشكل محدود ...
واقع حال العراقيين يقول ان العالم كله قد تخلى عنهم, وحتى الذي يريد المساعدة فهو عاجز ومكبل اليدين وخائف...
هذا ما رأيته من واقع المنظمات التي تعمل لمساعدة العراق, ليست مسألة فساد اداري او سوء برامج , انما المنظمات حتى الكبيرة منها عاجزة ومكبلة اليدين , خائفة من بوش وادارته, لانه سيوجه لهم تهمة مساندة الارهاب ان هم ساعدوا الشعب العراقي البائس الحزين ...
العالم يعيش مرحلة خطيرة من تاريخه , يسيطر الاشرار على صناعة القرار في الدول العظمى , ويخوفون كل من يحاول عمل الخير ويوجهون له تهما خطيرة تدمر سمعته ومستقبله...
لكن مازال ثمة رجال ونساء شجعان لا يبالون ولا يخافون ..
يمدون يد العون الانساني للعراق والعراقيين بشكل فردي او من خلال منظمات غير حكومية , نسأل الله ان يبارك بهم , ويؤيدهم ويثبتهم ويقويهم على عمل الخير , آمين
****************************
في البداية قابلت عوائل عراقية تعيش هنا ظروفا صعبة , بلا اقامة شرعية , لان الحصول على اقامة شرعية معناه ان تكون اما مستثمر , او متعاقد مع الدولة, او مع شركة في القطاع الخاص, او طالب يدرس في الجامعة , او تضع 100 الف دولار في البنك لمدة سنة, ثم تقدم طلب الحصول على الاقامة لوزارة الداخلية, قد يقبل الطلب وقد يرفض, لكن غالبا يتم القبول
طيب, عادة العوائل هنا تحصل على اقامة مجانية لمدة 6 شهور, ثم يرفض تجديد اقامتها وينبغي دفع غرامة يومية مقدارها حوالي 2 دولار باليوم للشخص الواحد
واذا ضبط الشخص خصوصا الشباب وهو في الشارع وعلى نقطة تفتيش , وتبين انه بلا اقامة شرعية, يتم حجزه وتسفيره الى الحدود الاردنية العراقية.
ثم اكتشف الناس ان المفوضية العليا للاجئين , بدأت تقابل العوائل العراقية وتعطيها وثيقة عدم تسفير قسري , كل فرد من العائلة يحمل وثيقة عليها اسمه وصورته , لكن لا
تعطي حاملها حق العمل ..
هذه العوائل من خلال لقاءاتي اكتشفت انها الاكثرية هنا, اما نوع العوائل التي تحمل اقامات شرعية فهي تكاد تكون محدودة مقارنة بهذا العدد الكبير من المقيمين غير الشرعيين..
هؤلاء المقيمون غير الشرعيين ليس لهم حق بارسال اولادهم الى المدارس الحكومية المجانية, وليس عندهم امكانية دفع اجور المدارس الخاصة حيث ارخص مدرسة تكلف حوالي500دولار سنويا ..
ثمة عوائل عندها اطفال بهم امراض مزمنه وتحتاج علاج طويل وباهض التكاليف , وهي تشتكي ولا احد يجيب,..
ثمة عوائل حصلت على علاج مجاني هنا , لانها جاءت مبكرا بعد الحرب او وجدت واسطة من اردنيين ساعدوهم في الحصول على علاج مجاني, لكن الاردن يظل بلدا صغيرا فقيرا محدود الموارد , لا يمكن ان يتحمل وحده مسؤولية ما حدث للعراق
اين مسؤولية الحكومة العراقية؟
اين مسؤولية الحكومة الامريكية ؟
اين مسؤولية الامم المتحدة ؟
هؤلاء الثلاثة ينبغي ان يتحملوا مسؤولية ما حدث للعراق دون سواهم ...
هؤلاء الثلاثة الذين وضعوا شرعية لهذه الحرب , ومازالوا يتهربون من تحمل مسؤولية ماحدث للعراق من كوارث انسانية ...
ومازالوا يخفون ما يحدث حقيقة في العراق , ودائما تصريحاتهم كاذبة وتقول ان كل شيء في العراق يجري في الاتجاه السليم , وان الامور تتجه نحو الاحسن..
اظن ان أول خطوة لحل مشاكل العراق الحزين الجريح هو الاعتراف من قبل هؤلاء الثلاثة بأن الوضع كارثي, وتقديم المساعدات الانسانية للعراقيين في الداخل الذين تهجروا من بيوتهم ومازالوا لحد الان, والذين اصيبوا بجروح او اعاقات بسبب العنف والتفجيرات , والذين فقدوا رب العائلة وفقدوا مورد خبزهم اليومي,
هؤلاء الثلاثة ينبغي ان يتحملوا مسؤولية كل مايحدث للعراقيين , ويعوضوا العوائل المنكوبة بمساعدات غذائية وطبية , ويحلوا مشاكل المهجرين بارجاعهم الى بيوتهم وتوفير الحماية لمناطقهم السكنية بجيش عراقي وطني نظيف يتميز بمهنية عالية, ولا تتخلله عصابات ومليشيات طائفية تقتل مواطنيها ....
لكن واقع الحال المؤلم ان الحكومة العراقية تعيش منعزلة عن معاناة شعبها, ويصرح رجالها بكلام لا ينتمي للواقع, ومن يسمعهم يصدق ان العراق يغرق في الخير والسعادة
وفقط يوجد كم ارهابي من القاعدة سنقضي عليهم ونعيش بسعادة الى الابد...
كارثة عندما يستلم المسؤولية في شركة صغيرة موظف حرامي وكذاب...
فكيف هو حجم الكارثة في دولة مثل العراق صارت تحت رحمة مسؤولين معظمهم لصوص وكذابين؟
يا مسكين يا عراق ...
****************************
ثم قابلت طبيبا قادما من بغداد من مستشفى الاعظمية , هو سني وزوجته شيعية كالعادة كما هي القصة المألوفة بين العراقيين..
منطقة الاعظمية فيها غالبية سنية , لكن ليس معنى هذا ان هناك عداء ضد الشيعة, مازالت عوائل شيعية تعيش بانسجام مع جيرانها منذ عقود طويلة ,
الاحتلال دخل مفردات مسمومة على الشعب العراقي, وقسمهم الى سنة وشيعة وعرب واكراد , كنا نسمع نظرية فرق تسد عندما كنا صغارا, وهانحن رأيناها تطبق على أرض الواقع في العراق...
انقسم العراقيون الى مؤيدين للاحتلال, ورافضين للاحتلال..
حسب تقديري ومشاهداتي منذ بداية الحرب لحد الان , المؤيدين اقلية مستفيدة تعمل مع الحكومة الحالية او الاحتلال , شركات ومقاولات , وهؤلاء معزولون تماما ويخافون الاختلاط مع العراقيين خوفا على حياتهم داخل العراق, لكن الذين هنا بعمان يجاهرون بارائهم ولا يخافون , طبعا يركبون سيارات اخر موديلات هم وابناؤهم وبناتهم, ويملكون افخم القصور في عمان , ويرتادون افخم المطاعم والنوادي الليلية ...
هؤلاء لا معاناة عندهم , لا مشاكل اقامة أو تعليم اولادهم او علاج طبي او اي ضائقة مالية , هؤلاء يقولون ان العراق بخير ويمشي بالاتجاه الصحيح , ويحبون بوش وبلير ويرونهم قدوتهم في الحياة ...
قابلت عددا منهم , ورأيتهم مثل الببغاوات يرددون نفس الكلام , ولا توجد ذرة شفقة ورحمة في قلوبهم على العراقيين الفقراء, فعندهم الحياة هي مجرد فرص , وهذه فرصتهم الان , والباقون اغبياء وضعفاء ولا يعرفون تدبير حياتهم فهم يستحقون ما يجري لهم...
يبدو ان كثرة الفلوس تعمي القلوب والعيون ...
لا ادري , احس تجاههم بالاشمئزاز والنفور , أحسهم مثل حشرات تمص دماء البشر
وتعيش لنفسها ولا تفكر بغيرها...
هؤلاء الناس لا يفكرون الا بالمال , كيف يكسبونه وكيف يكثرون رصيدهم , ولا يهمهم حلال او حرام , مشروع ام غير مشروع , هذه فرص لا تفوت بالنسبة لهم , واصحاب المباديء بالنسبة لهم هم مجرد أناس سذج , يعيشون عالما غير واقعي....
الفئة الاخرى من العراقيين هي من الغالبية المسكينة التي عانت من كل مصائب العراق, عانت من الحروب السابقة , وعانت من الحصار, ومن هذه الحرب الاخيرة , وفقدت طعم الاستقرار والراحة , ومازالت تنتظر ان يتحسن الوضع في العراق, هؤلاء يحبون العراق ولا يجدون للحياة معنى بدونه او بعيدا عنه ...
هؤلاء تتهدد حياتهم كل يوم بطريقة عشوائية منذ بداية الحرب لحد الان, اما فقدوا احد افراد العائلة أو تعرضوا للخطف والتهديد, او للتهجير, او اضطروا للسفر وتركوا بيوتهم مرغمين...
هؤلاء هم الضحايا التي لا يسمع صوتها أحد ولا يهتم لشكواها أحد ...
وهم غالبية الشعب العراقي...
وهؤلاء يرفضون فكرة سني وشيعي لانهم خليط من هذا وذاك ..
لكن الذين وافقوا على الحرب ومشوا في مركب بوش وادارته , يوافقون على تسويق قصة سني وشيعي من أجل اغراض سياسية ومكاسب مادية وهذه تتحقق اذا طبقت الفدرالية الطائفية التي ستحقق مصالحهم , وهم يعملون في الحكومة وعندهم احزاب واحزابهم عندها مليشيات طائفية تعيث فسادا في العراق, ضحاياها من الشعب العراقي السني الشيعي المسكين ,
يقتلون ويخطفون ويفجرون من اجل ارغام الشعب العراقي على تقبل فكرة تقسيم العراق
و هكذا يسوقون مشروع بوش في العراق الجديد ...
************************************
قال الطبيب من مستشفى الاعظمية ان المنطقة فيها اشتباكات متعددة بين جماعات مسلحة تستهدف رتل الجيش الامريكي حين يمر, وجماعات اخرى تستهدف رتل الشرطة العراقية والجيش العراقي حين يمر...
وطبعا هناك ايضا جماعات مسلحة طائفية تقتل الشيعي والسني ...
كيف تصرفت الحكومة ؟
ارسلت قوة من الشرطة والجيش للدخول الى المستشفى ومحاصرتها, والتحقيق مع كل مريض او جريح ان كان يعمل مع الجماعات المسلحة ثم اعتقال المشتبه بهم ...
جاءت الجماعات المسلحة بعد ذلك وهاجمت المستشفى واشتبكت مع الجيش والشرطة
وتم تدمير سيارات الاسعاف الواقفة بباب المستشفى , والمولدة الكبيرة التي تشغل كهرباء للمستشفى, وطلقات الرصاص وشظايا الزجاج المحطم كانت تنتشر في غرف المستشفى
تخيل كيف حال المرضى والاطباء ؟
هرب المرضى طبعا وبقيت المستشفى خالية..
الذكور يخافون الدخول للمستشفى خوفا من التحقيق والاعتقال...
والنساء ايضا يرفضن الدخول فهن مرعوبات من اجواء العنف واطلاق النار ...
وطاقم الاطباء والممرضين والاداريين معظمهم توقف عن الدوام....
طيب , هل هذه تصرفات حكومة تريد تنفيذ خطة امنية لحماية المواطنين؟
انقلبت المستشفى الى ساحة قتال بعد ان تم استفزاز الجماعات المسلحة في المنطقة...
ان كان المسلحون في المنطقة ارهابيين وحمقى , طيب من يحافظ على ارواح العراقيين الابرياء؟
لماذا هذا الاستهتار في التعامل مع أرواح الناس؟
العنف يغذي مزيدا من العنف...
العراق بحاجة الى دبلوماسية للتعامل مع الاحداث, المصالحة الوطنية تحتاج الى دبلوماسية وسماع رأي الطرف الاخر, العناد والغباء هو سبب تدمير العراق وتمزيقه...
وقائد هذا العناد والغباء هو الادارة الامريكية وسياستها الغبية في العراق منذ 2003 وحتى الان...
العراقيون بحاجة لمن يجمع شملهم ويوحد قلوبهم ويقربهم من بعضهم للتفاهم على نقاط مشتركة...
العراقيون بحاجة لمن يسوق ثقافة المغفرة بينهم ونسيان الماضي ...
لكن هذه الادارة الامريكية الشريرة فرقت العراقيين وحرضتهم ضد بعض, واستغلت اخطاء الماضي ابشع استغلال ...
وماذا حصدت سوى الخراب والدمار عليها وعلى الشعب العراقي المسكين...
هذه هي حقيقة الحال ,
لكن بوش يتهرب وينكر ويخدع نفسه وشعبه...
العراق يمشي في الاتجاه الخطأ ...
وهذا العنف اليومي هو اكبر دليل ....
************************
الطبيب الاخر قابلته من مستشفى الاطفال المركزي ببغداد...
حكى لي قصص مرعبة عن ملاحقة المليشيات الطائفية له ولزميله طبيب من مستشفى الكرامة ببغداد, وكانت محاولة اغتيال ذهب فيها زميله ضحية , ونجا هو باعجوبة, ثم بقي في البيت لمدة 4 شهور, يدير عمله في المستشفى من خلال التلفون , واغلق عيادته , والمرضى يتصلون به ويتوسلون وهو يحاول علاجهم على الهاتف , تخصصه امراض كلى , ويقول تخيلي كيف يمكن لطبيب ان يعالج مرضاه على الهاتف؟
ثم جاءت مجموعة من الشرطة العراقية وخطفت اخاه , وضربته بكعوب البنادق وسببت له جروحا في الرأس, ووضعوه في صندوق السيارة , لكن بسبب الازدحام المروري وتوقف سيارة الشرطة , تمكن ان يفتح صندوق السيارة ويهرب الى الشارع وهو يركض بقميصه الممزق والدم يسيل من رأسه ...
ذهب الى نقطة تفتيش فيها جيش عراقي انقذوه واسعفوه وأرجعوه للبيت ...
هذا الرجل اخو طبيب الكلى يعمل طبيب أسنان ,
طيب هل هذه حياة يعيشها طبيب وطبيب اسنان ؟
ويختم الطبيب حديثه قائلا : لكنني اقول لكل الاطباء زملائي لا تغادروا العراق, لمن سنترك البلاد ؟
بيد اللصوص والقتلة ؟
بقيت احدق في وجهه....
كم احترمته؟
رأيته أشرف من كل الذين يجلسون على كراسي الحكم ويستهترون بأرواح العراقيين المساكين , وحمدت الله ان في العراق مازال ثمة أناس مخلصين وشرفاء مثل هذا الرجل...
وتذكرت أنني عندما اتصلت قبل اسبوعين بصيدلانية في بغداد لتعينني على ارسال منظومات تصفية تعقيم المياه الى مستشفيات في المنطقة الغربية في العراق, ساعدتني بكل اخلاص, ثم اتصلت بي وبلغتني انها ارسلت المنظومات وان ايميل سيصلني من كل مستشفى يؤكد وصول الاغراض لهم , شكرتها كثيرا , واعتذرت وقالت انها مشغولة بسبب خطف زوجها الطبيب من قبل جماعات مسلحة وهو محجوز الان في وزارة الداخلية وتنتظر اطلاق سراحه ليغادروا العراق سوية ...
ذهلت حين سمعت القصة , والمرأة تبدو من صوتها متماسكة وقوية , وسألتها منذ متى خطف؟
قالت حوالي 6 شهور ......
تمنيت لها ان تفرح باطلاق سراحه ورجوعه سالما , واغلقت سماعة الهاتف وانا في حيرة من أمري....
يا للعراق الحزين ...
ماذا فعل بك الاغبياء والمجرمون ؟
******************************
يوجد سائق عراقي صديق العائلة , نعرفه منذ سنين..
وهو مسالم مسكين يعيش على باب الله كما يقولون , يعيل عائلة كبيرة مؤلفة من امه وابيه وزوجته واطفاله ويسكنون جميعهم ببيت واحد في بغداد...
وهو يعمل سائقا بين عمان وبغداد ...
خرج قبل يومين متوجها الى عمان, وفي طريقه لياخذ الركاب, اوقفه حاجز شرطة عراقية بين الاعظمية والمنصور , وطلبوا هويته واوراق السيارة,
قدمها لهم , فوجدوا ان اسمه سني جدا وانه من سكان الاعظمية,ركب معه شرطي مسلح في المقعد الامامي , وشرطي ثاني مسلح على المقعد الخلفي
وطلبوا منه السير بمركبته الى اتجاه معين, ظل يسير ويسير..حتى وجد نفسه في منطقة الشعلة , وهي منطقة شيعية فقيرة مزدحمة بالسكان , طلبوا منه ايقاف سيارته , والنزول منها, وادخلوه الى بيت صغير فيه باقي افراد العصابة حيث ضربوه وفتشوه وسرقوا محفظته ومحتوياتها من نقود قليلة..
ثم جاء زعيم العصابة وهو شاب له لحية وينادونه السيد
( يعني هو رئيس العصابة بس يستعمل مركزه الديني )
وطلب منهم ان يربطوا يدي السائق ويخرجون به الى السيارة
القوا به على الكرسي الخلفي
وهو يظن ان نهايته حانت بلا ادنى شك
يداه مربوطتان باسلاك تلفون رفيعة ,ووضعوا عصابة على عيونه , طبعا الخطوة القادمة هي اطلاق رصاص على راسه ثم القاء جثته في الشارع وعليها اثار اطلاق نار,وسيقولون هذه جثة مغدورة ...
لكنه فكر لحظة وطلب من الله المساعدة , ففك وثاقه بسهولة , وسحب مفاتيح السيارة النسخة الثانية بجيبة , الله عماهم عندما فتشوه ولم يجدوها, نزع العصابة عن عيونه, وشغل السيارة وانطلق بها كالمجنون ..
لاحقوه واطلقوا الرصاص على الزجاج والاطارات , تكسر الزجاج , وتلف احد الاطارات لكنه استمر بالقيادة بجنون حتى وصل منطقة جامع ام القرى , ووجد عندها نقطة تفتيش جيش عراقي, توقف عندهم وطلب المساعدة , انزلوه وغسلوا وجهه وجلبوا له حذاء لانه حافي, واخذوا سيارته لتصليح الاطار المعطوب وارجعوه للبيت سالما
وطلبوا منه معلومات مفصلة عن الشرطة التي خطفته , اعطاهم رقم سيارتهم وعنوان البيت الوكر الذي يستخدمونه لخطف الناس الابرياء من المدنيين ثم قتلهم ورميهم في الشوارع ...
اتصلت به لاقول له الحمد لله على السلامة,
ضحك وقال انه لا يصدق انه على قيد الحياة , مازال في الصدمة ...
قلت له ربما رب العالمين يريد ان يجعلك سببا لتدل على مكان هؤلاء المجرمين وتنقذ ارواح عراقيين اخرين ابرياء ...
طيب, عندما تكون الشرطة العراقية مشبوهة وفيها عصابات قتلة ومجرمين كيف يمكن بناء دولة عراقية جديدة على هذه الاسس الهشة ؟
بريمر الشرير حين قرر حل الجيش والشرطة العراقية هل فكر بهذه النتيجة؟
العراق الحزين يحصد ثمار ما زرعه الاغبياء والاشرار ؟
لست ادري...
********************
ثم التقيت زوجة احد اقربائنا الذي ابعده صدام من العراق لانه شيعي من اصول ايرانية ..
قالت ان المخابرات استولوا على البيت, وتبهدلت انا واولادي , وزوجي عانى في الغربة حيث ذهب الى سوريا, كان تاجرا غنيا في العراق, ثم عاش فقيرا معدما ومات في سوريا...
وقالت ان المخابرات العراقية ظلوا يلاحقونها ويطلبون منها ان تتعاون معهم, وكانت تعيش اياما قاسية ومرعبة ...
طبعا احزنتني قصتها,
وسالتها طيب هل انتي راضية عما حدث للعراق الان؟
قالت طبعا لا, حين دخلت الدبابات الامريكية الى جنوب العراق , وكنت اعيش هناك, قلت للناس لا تفرحوا, فسوف يتدمر العراق...
احسست بمقدار معاناتها وحزنها, ومات زوجها بعيدا عنها وهي شابة جميلة
واطفالها انحرموا من ابيهم بسبب ظلم صدام ..
لكن ما هو الحل؟
هل نصلح ظلم صدام بسفك دماء المزيد من العراقيين؟
هل اسقاط النظام بتدخل دولة اجنبية هو الحل؟
كان ينبغي طبعا تغيير النظام في العراق, لكن ليس بهذه الطريقة الغبية الحمقاء..
كان ينبغي ترك العراقيين حتى يحين الوقت المناسب لتغيير القيادة التي لا تعجبهم , التغيير من الداخل وبارادة الشعب سيكون خطوة ناضجة ومتزنة وعاقلة, دون تدخل خارجي وسفك دماء وسياسات غبية جاهلة لا تعرف طبيعة المجتمع العراقي وتاريخه
ولا تعرف كيف تحل مشاكله بطريقة عادلة دون تحريض وحقد وانتقام....
اخطاء السياسة الامريكية في العراق هي اخطاء قاتلة لا يمكن تبريرها...
مات مئات الالاف من العراقيون منذ 4 سنوات, ولحد الان العنف مستمر
ولا يوجد ثمة أمل كبير في الافق...
الأمل يتضاءل يوما بعد يوم ...
ان لم يغير بوش سياسته في العراق, ويسحب جيوشه من العراق, ويترك الفرصة للعراقيين الوطنيين المخلصين ان يستلموا القرار في العراق, فإن مسلسل الكوارث والنزيف اليومي سيظل مستمرا...
وستظل هذه الخطايا التي ترتكب في العراق يوميا ضد شعب مسكين , هذه الجرائم يتحمل مسؤوليتها بوش بالدرجة الاولى , ثم كل شرير او لص او مجرم , يشجعه على البقاء في العراق....
وفي النهاية كما يقول العراقيون دائما : لا يصح الا الصحيح ...
يعني سيتحرر العراق ويبني مستقبله ...
لكن متى؟
من يستطيع ان يحزر كم من السنوات سننتظر ؟
خمسة أم عشرة أم عشرين ؟
كان الله في عون العراق والعراقيين .......
السلام عليكم
عندما كنت في بغداد فترة الحرب وبعدها , كانت الكتابة بالنسبة لي على موقعي هذا ,
بند مهم من طقوس حياتي اليومية...
كنت اذهب للعمل كل يوم , واعود لأعتني ببيتي وعائلتي, لكن الكتابة كانت بالنسبة لي موضوعا مهما ينبغي انجازه كل يوم او يومين, كأنه جزء من مسؤوليتي لأخبر العالم ماذا يحصل لنا وكيف نعيش أيامنا...
لكن سبحان الله , الناس يتعبون من الكلام والحديث نفسه يصبح مكررا ومملا..
وأنا لا احب ان العب هذا الدور الممل,
كل يوم أعيد وأكرر نفس الكلام كما تفعل الصحف ومحطات التلفزيون والاذاعة ,
احيانا الناس يتوقفون عن السماع والمشاهدة, كل شيء يغيظ ويحبط ...
الان ,صارت الكتابة على موقعي بالنسبة لي هي شيء منسي في برنامج حياتي اليومي...
لأنني مشغولة بالعمل للعراق,
احاول أن اطرق كل الابواب و اتنازل عن كبريائي الشخصي ,
لأنني اطلب مساعدة للعراقيين, وليست مساعدة شخصية لي او لعائلتي, الحمد لله عندنا كل شيء ,
لكن العراق فقد كل شيء...
فقد أمنه واستقراره ,ومستقبله مازال يتخبط في ظلمات ودماء...
وفقد خيرة رجاله ونسائه المثقفين المخلصين إما هربوا منه خوفا على حياتهم, او تم اغتيالهم , أو مازال بعضهم يعيش هناك حيث يصبح ويمسي مع الموت...
أية حياة هذه؟
ولكننا دائما نقول : الحمد لله على كل حال , هذه إرادة رب العالمين وليست ارادة بوش, والمصائب التي حدثت للعراق كتبها علينا رب العالمين, وهذا امتحان قاس لنا جميعا..
وخلال هذا الامتحان ,
فالبعض اختار ان يسرق وينهب ويقتل ويخون , والبعض ظل مؤمنا متمسكا بقناعاته وظل قوي القلب وشجاع , يحب العراق وأهله ويفعل المستحيل من اجل مساعدتهم في محنتهم ,
والبعض تخاذل وقال ان العراق لن يعود ابدا , فهرب وطلب اللجوء الانساني او الهجرة
وتنازل عن الجنسية العراقية , لا يريد ان تلاحقه لعنة أنه عراقي ...
والبعض ذهب ضحية العنف اليومي دون قرار منه او رغبة ....
***********************************************
الاسابيع الماضية كانت مميزة بالنسبة لي..
قضيت بعضها في لقاءات مع عراقيين هنا يعيشون في عمان لأعرف احوالهم واكتب عنهم تقريرا لمنظمة معينة..
وقضيت وقتا اخر التقيت فيه بأطباء قادمين من بغداد , ومن خلال عملي لارسال اجهزة تعقيم مياه للمستشفيات فأنهم يعرفون تلفوني هنا, وعندما يصلون الى عمان في زيارة قصيرة, التقيهم واسمع منهم كيف هي احوالهم هناك , ثم اودعهم وقلبي مملوء بالحزن على العراق كله , وليس على شخص محدد...
والتقيت قريبتي التي مات زوجها بسبب ظلم نظام صدام حسين وسمعت قصتها كاملة ..
واتصلت ببغداد لأسمع قصة صديق العائلة الذي خطفته عصابة من الشرطة ثم هرب منهم باعجوبة , تكلمت معه على الهاتف وقلت له الحمد لله على السلامة ...
كل القصص متشابكة واحيانا متناقضة , لكنها تحكي عن حال العراق الحزين اليوم
وحال شعب العراق الحزين , كأنهم يتقلبون في النيران , ويهربون من نار الى اخرى..
من نار القتل اليومي والخطف والرعب, الى نار الغربة في دول الجوار ومعاناة وذل
لا يوصفان , بلا اقامة شرعية, بلا حق عمل, بلا حق تعليم لاولادهم , والعلاج المجاني الى حد ما توفره بعض المنظمات , لكن بشكل محدود ...
واقع حال العراقيين يقول ان العالم كله قد تخلى عنهم, وحتى الذي يريد المساعدة فهو عاجز ومكبل اليدين وخائف...
هذا ما رأيته من واقع المنظمات التي تعمل لمساعدة العراق, ليست مسألة فساد اداري او سوء برامج , انما المنظمات حتى الكبيرة منها عاجزة ومكبلة اليدين , خائفة من بوش وادارته, لانه سيوجه لهم تهمة مساندة الارهاب ان هم ساعدوا الشعب العراقي البائس الحزين ...
العالم يعيش مرحلة خطيرة من تاريخه , يسيطر الاشرار على صناعة القرار في الدول العظمى , ويخوفون كل من يحاول عمل الخير ويوجهون له تهما خطيرة تدمر سمعته ومستقبله...
لكن مازال ثمة رجال ونساء شجعان لا يبالون ولا يخافون ..
يمدون يد العون الانساني للعراق والعراقيين بشكل فردي او من خلال منظمات غير حكومية , نسأل الله ان يبارك بهم , ويؤيدهم ويثبتهم ويقويهم على عمل الخير , آمين
****************************
في البداية قابلت عوائل عراقية تعيش هنا ظروفا صعبة , بلا اقامة شرعية , لان الحصول على اقامة شرعية معناه ان تكون اما مستثمر , او متعاقد مع الدولة, او مع شركة في القطاع الخاص, او طالب يدرس في الجامعة , او تضع 100 الف دولار في البنك لمدة سنة, ثم تقدم طلب الحصول على الاقامة لوزارة الداخلية, قد يقبل الطلب وقد يرفض, لكن غالبا يتم القبول
طيب, عادة العوائل هنا تحصل على اقامة مجانية لمدة 6 شهور, ثم يرفض تجديد اقامتها وينبغي دفع غرامة يومية مقدارها حوالي 2 دولار باليوم للشخص الواحد
واذا ضبط الشخص خصوصا الشباب وهو في الشارع وعلى نقطة تفتيش , وتبين انه بلا اقامة شرعية, يتم حجزه وتسفيره الى الحدود الاردنية العراقية.
ثم اكتشف الناس ان المفوضية العليا للاجئين , بدأت تقابل العوائل العراقية وتعطيها وثيقة عدم تسفير قسري , كل فرد من العائلة يحمل وثيقة عليها اسمه وصورته , لكن لا
تعطي حاملها حق العمل ..
هذه العوائل من خلال لقاءاتي اكتشفت انها الاكثرية هنا, اما نوع العوائل التي تحمل اقامات شرعية فهي تكاد تكون محدودة مقارنة بهذا العدد الكبير من المقيمين غير الشرعيين..
هؤلاء المقيمون غير الشرعيين ليس لهم حق بارسال اولادهم الى المدارس الحكومية المجانية, وليس عندهم امكانية دفع اجور المدارس الخاصة حيث ارخص مدرسة تكلف حوالي500دولار سنويا ..
ثمة عوائل عندها اطفال بهم امراض مزمنه وتحتاج علاج طويل وباهض التكاليف , وهي تشتكي ولا احد يجيب,..
ثمة عوائل حصلت على علاج مجاني هنا , لانها جاءت مبكرا بعد الحرب او وجدت واسطة من اردنيين ساعدوهم في الحصول على علاج مجاني, لكن الاردن يظل بلدا صغيرا فقيرا محدود الموارد , لا يمكن ان يتحمل وحده مسؤولية ما حدث للعراق
اين مسؤولية الحكومة العراقية؟
اين مسؤولية الحكومة الامريكية ؟
اين مسؤولية الامم المتحدة ؟
هؤلاء الثلاثة ينبغي ان يتحملوا مسؤولية ما حدث للعراق دون سواهم ...
هؤلاء الثلاثة الذين وضعوا شرعية لهذه الحرب , ومازالوا يتهربون من تحمل مسؤولية ماحدث للعراق من كوارث انسانية ...
ومازالوا يخفون ما يحدث حقيقة في العراق , ودائما تصريحاتهم كاذبة وتقول ان كل شيء في العراق يجري في الاتجاه السليم , وان الامور تتجه نحو الاحسن..
اظن ان أول خطوة لحل مشاكل العراق الحزين الجريح هو الاعتراف من قبل هؤلاء الثلاثة بأن الوضع كارثي, وتقديم المساعدات الانسانية للعراقيين في الداخل الذين تهجروا من بيوتهم ومازالوا لحد الان, والذين اصيبوا بجروح او اعاقات بسبب العنف والتفجيرات , والذين فقدوا رب العائلة وفقدوا مورد خبزهم اليومي,
هؤلاء الثلاثة ينبغي ان يتحملوا مسؤولية كل مايحدث للعراقيين , ويعوضوا العوائل المنكوبة بمساعدات غذائية وطبية , ويحلوا مشاكل المهجرين بارجاعهم الى بيوتهم وتوفير الحماية لمناطقهم السكنية بجيش عراقي وطني نظيف يتميز بمهنية عالية, ولا تتخلله عصابات ومليشيات طائفية تقتل مواطنيها ....
لكن واقع الحال المؤلم ان الحكومة العراقية تعيش منعزلة عن معاناة شعبها, ويصرح رجالها بكلام لا ينتمي للواقع, ومن يسمعهم يصدق ان العراق يغرق في الخير والسعادة
وفقط يوجد كم ارهابي من القاعدة سنقضي عليهم ونعيش بسعادة الى الابد...
كارثة عندما يستلم المسؤولية في شركة صغيرة موظف حرامي وكذاب...
فكيف هو حجم الكارثة في دولة مثل العراق صارت تحت رحمة مسؤولين معظمهم لصوص وكذابين؟
يا مسكين يا عراق ...
****************************
ثم قابلت طبيبا قادما من بغداد من مستشفى الاعظمية , هو سني وزوجته شيعية كالعادة كما هي القصة المألوفة بين العراقيين..
منطقة الاعظمية فيها غالبية سنية , لكن ليس معنى هذا ان هناك عداء ضد الشيعة, مازالت عوائل شيعية تعيش بانسجام مع جيرانها منذ عقود طويلة ,
الاحتلال دخل مفردات مسمومة على الشعب العراقي, وقسمهم الى سنة وشيعة وعرب واكراد , كنا نسمع نظرية فرق تسد عندما كنا صغارا, وهانحن رأيناها تطبق على أرض الواقع في العراق...
انقسم العراقيون الى مؤيدين للاحتلال, ورافضين للاحتلال..
حسب تقديري ومشاهداتي منذ بداية الحرب لحد الان , المؤيدين اقلية مستفيدة تعمل مع الحكومة الحالية او الاحتلال , شركات ومقاولات , وهؤلاء معزولون تماما ويخافون الاختلاط مع العراقيين خوفا على حياتهم داخل العراق, لكن الذين هنا بعمان يجاهرون بارائهم ولا يخافون , طبعا يركبون سيارات اخر موديلات هم وابناؤهم وبناتهم, ويملكون افخم القصور في عمان , ويرتادون افخم المطاعم والنوادي الليلية ...
هؤلاء لا معاناة عندهم , لا مشاكل اقامة أو تعليم اولادهم او علاج طبي او اي ضائقة مالية , هؤلاء يقولون ان العراق بخير ويمشي بالاتجاه الصحيح , ويحبون بوش وبلير ويرونهم قدوتهم في الحياة ...
قابلت عددا منهم , ورأيتهم مثل الببغاوات يرددون نفس الكلام , ولا توجد ذرة شفقة ورحمة في قلوبهم على العراقيين الفقراء, فعندهم الحياة هي مجرد فرص , وهذه فرصتهم الان , والباقون اغبياء وضعفاء ولا يعرفون تدبير حياتهم فهم يستحقون ما يجري لهم...
يبدو ان كثرة الفلوس تعمي القلوب والعيون ...
لا ادري , احس تجاههم بالاشمئزاز والنفور , أحسهم مثل حشرات تمص دماء البشر
وتعيش لنفسها ولا تفكر بغيرها...
هؤلاء الناس لا يفكرون الا بالمال , كيف يكسبونه وكيف يكثرون رصيدهم , ولا يهمهم حلال او حرام , مشروع ام غير مشروع , هذه فرص لا تفوت بالنسبة لهم , واصحاب المباديء بالنسبة لهم هم مجرد أناس سذج , يعيشون عالما غير واقعي....
الفئة الاخرى من العراقيين هي من الغالبية المسكينة التي عانت من كل مصائب العراق, عانت من الحروب السابقة , وعانت من الحصار, ومن هذه الحرب الاخيرة , وفقدت طعم الاستقرار والراحة , ومازالت تنتظر ان يتحسن الوضع في العراق, هؤلاء يحبون العراق ولا يجدون للحياة معنى بدونه او بعيدا عنه ...
هؤلاء تتهدد حياتهم كل يوم بطريقة عشوائية منذ بداية الحرب لحد الان, اما فقدوا احد افراد العائلة أو تعرضوا للخطف والتهديد, او للتهجير, او اضطروا للسفر وتركوا بيوتهم مرغمين...
هؤلاء هم الضحايا التي لا يسمع صوتها أحد ولا يهتم لشكواها أحد ...
وهم غالبية الشعب العراقي...
وهؤلاء يرفضون فكرة سني وشيعي لانهم خليط من هذا وذاك ..
لكن الذين وافقوا على الحرب ومشوا في مركب بوش وادارته , يوافقون على تسويق قصة سني وشيعي من أجل اغراض سياسية ومكاسب مادية وهذه تتحقق اذا طبقت الفدرالية الطائفية التي ستحقق مصالحهم , وهم يعملون في الحكومة وعندهم احزاب واحزابهم عندها مليشيات طائفية تعيث فسادا في العراق, ضحاياها من الشعب العراقي السني الشيعي المسكين ,
يقتلون ويخطفون ويفجرون من اجل ارغام الشعب العراقي على تقبل فكرة تقسيم العراق
و هكذا يسوقون مشروع بوش في العراق الجديد ...
************************************
قال الطبيب من مستشفى الاعظمية ان المنطقة فيها اشتباكات متعددة بين جماعات مسلحة تستهدف رتل الجيش الامريكي حين يمر, وجماعات اخرى تستهدف رتل الشرطة العراقية والجيش العراقي حين يمر...
وطبعا هناك ايضا جماعات مسلحة طائفية تقتل الشيعي والسني ...
كيف تصرفت الحكومة ؟
ارسلت قوة من الشرطة والجيش للدخول الى المستشفى ومحاصرتها, والتحقيق مع كل مريض او جريح ان كان يعمل مع الجماعات المسلحة ثم اعتقال المشتبه بهم ...
جاءت الجماعات المسلحة بعد ذلك وهاجمت المستشفى واشتبكت مع الجيش والشرطة
وتم تدمير سيارات الاسعاف الواقفة بباب المستشفى , والمولدة الكبيرة التي تشغل كهرباء للمستشفى, وطلقات الرصاص وشظايا الزجاج المحطم كانت تنتشر في غرف المستشفى
تخيل كيف حال المرضى والاطباء ؟
هرب المرضى طبعا وبقيت المستشفى خالية..
الذكور يخافون الدخول للمستشفى خوفا من التحقيق والاعتقال...
والنساء ايضا يرفضن الدخول فهن مرعوبات من اجواء العنف واطلاق النار ...
وطاقم الاطباء والممرضين والاداريين معظمهم توقف عن الدوام....
طيب , هل هذه تصرفات حكومة تريد تنفيذ خطة امنية لحماية المواطنين؟
انقلبت المستشفى الى ساحة قتال بعد ان تم استفزاز الجماعات المسلحة في المنطقة...
ان كان المسلحون في المنطقة ارهابيين وحمقى , طيب من يحافظ على ارواح العراقيين الابرياء؟
لماذا هذا الاستهتار في التعامل مع أرواح الناس؟
العنف يغذي مزيدا من العنف...
العراق بحاجة الى دبلوماسية للتعامل مع الاحداث, المصالحة الوطنية تحتاج الى دبلوماسية وسماع رأي الطرف الاخر, العناد والغباء هو سبب تدمير العراق وتمزيقه...
وقائد هذا العناد والغباء هو الادارة الامريكية وسياستها الغبية في العراق منذ 2003 وحتى الان...
العراقيون بحاجة لمن يجمع شملهم ويوحد قلوبهم ويقربهم من بعضهم للتفاهم على نقاط مشتركة...
العراقيون بحاجة لمن يسوق ثقافة المغفرة بينهم ونسيان الماضي ...
لكن هذه الادارة الامريكية الشريرة فرقت العراقيين وحرضتهم ضد بعض, واستغلت اخطاء الماضي ابشع استغلال ...
وماذا حصدت سوى الخراب والدمار عليها وعلى الشعب العراقي المسكين...
هذه هي حقيقة الحال ,
لكن بوش يتهرب وينكر ويخدع نفسه وشعبه...
العراق يمشي في الاتجاه الخطأ ...
وهذا العنف اليومي هو اكبر دليل ....
************************
الطبيب الاخر قابلته من مستشفى الاطفال المركزي ببغداد...
حكى لي قصص مرعبة عن ملاحقة المليشيات الطائفية له ولزميله طبيب من مستشفى الكرامة ببغداد, وكانت محاولة اغتيال ذهب فيها زميله ضحية , ونجا هو باعجوبة, ثم بقي في البيت لمدة 4 شهور, يدير عمله في المستشفى من خلال التلفون , واغلق عيادته , والمرضى يتصلون به ويتوسلون وهو يحاول علاجهم على الهاتف , تخصصه امراض كلى , ويقول تخيلي كيف يمكن لطبيب ان يعالج مرضاه على الهاتف؟
ثم جاءت مجموعة من الشرطة العراقية وخطفت اخاه , وضربته بكعوب البنادق وسببت له جروحا في الرأس, ووضعوه في صندوق السيارة , لكن بسبب الازدحام المروري وتوقف سيارة الشرطة , تمكن ان يفتح صندوق السيارة ويهرب الى الشارع وهو يركض بقميصه الممزق والدم يسيل من رأسه ...
ذهب الى نقطة تفتيش فيها جيش عراقي انقذوه واسعفوه وأرجعوه للبيت ...
هذا الرجل اخو طبيب الكلى يعمل طبيب أسنان ,
طيب هل هذه حياة يعيشها طبيب وطبيب اسنان ؟
ويختم الطبيب حديثه قائلا : لكنني اقول لكل الاطباء زملائي لا تغادروا العراق, لمن سنترك البلاد ؟
بيد اللصوص والقتلة ؟
بقيت احدق في وجهه....
كم احترمته؟
رأيته أشرف من كل الذين يجلسون على كراسي الحكم ويستهترون بأرواح العراقيين المساكين , وحمدت الله ان في العراق مازال ثمة أناس مخلصين وشرفاء مثل هذا الرجل...
وتذكرت أنني عندما اتصلت قبل اسبوعين بصيدلانية في بغداد لتعينني على ارسال منظومات تصفية تعقيم المياه الى مستشفيات في المنطقة الغربية في العراق, ساعدتني بكل اخلاص, ثم اتصلت بي وبلغتني انها ارسلت المنظومات وان ايميل سيصلني من كل مستشفى يؤكد وصول الاغراض لهم , شكرتها كثيرا , واعتذرت وقالت انها مشغولة بسبب خطف زوجها الطبيب من قبل جماعات مسلحة وهو محجوز الان في وزارة الداخلية وتنتظر اطلاق سراحه ليغادروا العراق سوية ...
ذهلت حين سمعت القصة , والمرأة تبدو من صوتها متماسكة وقوية , وسألتها منذ متى خطف؟
قالت حوالي 6 شهور ......
تمنيت لها ان تفرح باطلاق سراحه ورجوعه سالما , واغلقت سماعة الهاتف وانا في حيرة من أمري....
يا للعراق الحزين ...
ماذا فعل بك الاغبياء والمجرمون ؟
******************************
يوجد سائق عراقي صديق العائلة , نعرفه منذ سنين..
وهو مسالم مسكين يعيش على باب الله كما يقولون , يعيل عائلة كبيرة مؤلفة من امه وابيه وزوجته واطفاله ويسكنون جميعهم ببيت واحد في بغداد...
وهو يعمل سائقا بين عمان وبغداد ...
خرج قبل يومين متوجها الى عمان, وفي طريقه لياخذ الركاب, اوقفه حاجز شرطة عراقية بين الاعظمية والمنصور , وطلبوا هويته واوراق السيارة,
قدمها لهم , فوجدوا ان اسمه سني جدا وانه من سكان الاعظمية,ركب معه شرطي مسلح في المقعد الامامي , وشرطي ثاني مسلح على المقعد الخلفي
وطلبوا منه السير بمركبته الى اتجاه معين, ظل يسير ويسير..حتى وجد نفسه في منطقة الشعلة , وهي منطقة شيعية فقيرة مزدحمة بالسكان , طلبوا منه ايقاف سيارته , والنزول منها, وادخلوه الى بيت صغير فيه باقي افراد العصابة حيث ضربوه وفتشوه وسرقوا محفظته ومحتوياتها من نقود قليلة..
ثم جاء زعيم العصابة وهو شاب له لحية وينادونه السيد
( يعني هو رئيس العصابة بس يستعمل مركزه الديني )
وطلب منهم ان يربطوا يدي السائق ويخرجون به الى السيارة
القوا به على الكرسي الخلفي
وهو يظن ان نهايته حانت بلا ادنى شك
يداه مربوطتان باسلاك تلفون رفيعة ,ووضعوا عصابة على عيونه , طبعا الخطوة القادمة هي اطلاق رصاص على راسه ثم القاء جثته في الشارع وعليها اثار اطلاق نار,وسيقولون هذه جثة مغدورة ...
لكنه فكر لحظة وطلب من الله المساعدة , ففك وثاقه بسهولة , وسحب مفاتيح السيارة النسخة الثانية بجيبة , الله عماهم عندما فتشوه ولم يجدوها, نزع العصابة عن عيونه, وشغل السيارة وانطلق بها كالمجنون ..
لاحقوه واطلقوا الرصاص على الزجاج والاطارات , تكسر الزجاج , وتلف احد الاطارات لكنه استمر بالقيادة بجنون حتى وصل منطقة جامع ام القرى , ووجد عندها نقطة تفتيش جيش عراقي, توقف عندهم وطلب المساعدة , انزلوه وغسلوا وجهه وجلبوا له حذاء لانه حافي, واخذوا سيارته لتصليح الاطار المعطوب وارجعوه للبيت سالما
وطلبوا منه معلومات مفصلة عن الشرطة التي خطفته , اعطاهم رقم سيارتهم وعنوان البيت الوكر الذي يستخدمونه لخطف الناس الابرياء من المدنيين ثم قتلهم ورميهم في الشوارع ...
اتصلت به لاقول له الحمد لله على السلامة,
ضحك وقال انه لا يصدق انه على قيد الحياة , مازال في الصدمة ...
قلت له ربما رب العالمين يريد ان يجعلك سببا لتدل على مكان هؤلاء المجرمين وتنقذ ارواح عراقيين اخرين ابرياء ...
طيب, عندما تكون الشرطة العراقية مشبوهة وفيها عصابات قتلة ومجرمين كيف يمكن بناء دولة عراقية جديدة على هذه الاسس الهشة ؟
بريمر الشرير حين قرر حل الجيش والشرطة العراقية هل فكر بهذه النتيجة؟
العراق الحزين يحصد ثمار ما زرعه الاغبياء والاشرار ؟
لست ادري...
********************
ثم التقيت زوجة احد اقربائنا الذي ابعده صدام من العراق لانه شيعي من اصول ايرانية ..
قالت ان المخابرات استولوا على البيت, وتبهدلت انا واولادي , وزوجي عانى في الغربة حيث ذهب الى سوريا, كان تاجرا غنيا في العراق, ثم عاش فقيرا معدما ومات في سوريا...
وقالت ان المخابرات العراقية ظلوا يلاحقونها ويطلبون منها ان تتعاون معهم, وكانت تعيش اياما قاسية ومرعبة ...
طبعا احزنتني قصتها,
وسالتها طيب هل انتي راضية عما حدث للعراق الان؟
قالت طبعا لا, حين دخلت الدبابات الامريكية الى جنوب العراق , وكنت اعيش هناك, قلت للناس لا تفرحوا, فسوف يتدمر العراق...
احسست بمقدار معاناتها وحزنها, ومات زوجها بعيدا عنها وهي شابة جميلة
واطفالها انحرموا من ابيهم بسبب ظلم صدام ..
لكن ما هو الحل؟
هل نصلح ظلم صدام بسفك دماء المزيد من العراقيين؟
هل اسقاط النظام بتدخل دولة اجنبية هو الحل؟
كان ينبغي طبعا تغيير النظام في العراق, لكن ليس بهذه الطريقة الغبية الحمقاء..
كان ينبغي ترك العراقيين حتى يحين الوقت المناسب لتغيير القيادة التي لا تعجبهم , التغيير من الداخل وبارادة الشعب سيكون خطوة ناضجة ومتزنة وعاقلة, دون تدخل خارجي وسفك دماء وسياسات غبية جاهلة لا تعرف طبيعة المجتمع العراقي وتاريخه
ولا تعرف كيف تحل مشاكله بطريقة عادلة دون تحريض وحقد وانتقام....
اخطاء السياسة الامريكية في العراق هي اخطاء قاتلة لا يمكن تبريرها...
مات مئات الالاف من العراقيون منذ 4 سنوات, ولحد الان العنف مستمر
ولا يوجد ثمة أمل كبير في الافق...
الأمل يتضاءل يوما بعد يوم ...
ان لم يغير بوش سياسته في العراق, ويسحب جيوشه من العراق, ويترك الفرصة للعراقيين الوطنيين المخلصين ان يستلموا القرار في العراق, فإن مسلسل الكوارث والنزيف اليومي سيظل مستمرا...
وستظل هذه الخطايا التي ترتكب في العراق يوميا ضد شعب مسكين , هذه الجرائم يتحمل مسؤوليتها بوش بالدرجة الاولى , ثم كل شرير او لص او مجرم , يشجعه على البقاء في العراق....
وفي النهاية كما يقول العراقيون دائما : لا يصح الا الصحيح ...
يعني سيتحرر العراق ويبني مستقبله ...
لكن متى؟
من يستطيع ان يحزر كم من السنوات سننتظر ؟
خمسة أم عشرة أم عشرين ؟
كان الله في عون العراق والعراقيين .......