Friday, July 23, 2004
الأربعاء 21 تموز 2004
مساء الخير ..
الساعة الآن الخامسة عصرا , الجو حار ودرجات الحرارة أكثر من 45 مئوية,والكهرياء تنقطع وتجيء بجدول 3 ساعات, ثم 3 ساعات .
بغداد هادئة, ويوجد كثير من الشرطة والجيش العراقيين, ولكن الدبابات والطائرات لا تفارقنا صباح مساء,
بصوتها وشكلها كأنما ثمة من يريد ان يقول نحن هنا , فلا تنسونا, هه هه.
الشوارع أقل إزدحاما في النهار ربما بسبب العطلة المدرسية , وشدة الحر , والخوف من التفجيرات, تجعل الناس أقل ما يكونوا رغبة في مغادرة منازلهم.
في سنوات ما قبل الحرب, كان العراقيون يخرجون للنوادي أو المطاعم قرب نهر دجلة, بعد العاشرة مساء, ويعودون لبيوتهم مع ساعات الفجر...
أما الأن, فننسلق من الحر في بيوتنا, ونكاد نموت من الملل , ونواسي انفسنا أن هذا الحال أفضل من المغامرة بحياتنا وحياة أولادنا ....
نتمنى جميعا أن تمر هذه الظروف الصعبة, وتنتهي بسرعة, ويعود الأمان ...
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل... .
****************************
عندما كنت في عمان , بقيت أفكر كل يوم..
عمان فيها أمان وأستقرار..ومحلات تجارية ومطاعم متنوعةوشوارع نظيفة وفنادق جميلة وحرية لا حدود لها..
في الكلام والملابس وأسلوب الحياة.
لكني اعرف أن الناس هناك متضايقون من الغلاء وقلة فرص العمل...
البنزين والكهرباء وفواتير التلفون غالية, والماء شحيح خصوصا في الصيف, والسياح القادمين يزيدون من أزمة الماء..
وإيجارات الشقق في ارتفاع, وأسعار شراء الشقق أو الأراضي كذلك في ارتفاع...وربما هجرة آلاف العراقيين واستقرارهم في عمان هو واحد من الأسباب.
لكني أعرف عمان منذ 1978 حين دخلتها أول مرة قادمة من بيروت وبغداد, أحمل رائد على ذراعي وكان عمره أربعون يوما...
كانت عمان مدينة صغيرة محافظة مغلقة مثل قرية..
.وكانت بغداد تعيش أيامها الذهبية , قبل الحرب على إيران وحماقات صدام حسين. حيث الجامعات العراقية فيها طلاب من جميع الدول العربية تقريبا..حركة الثقافة كانت شديدة, بغداد كانت تمتليء بالشعراء والفنانين ورجال الفكر والتراث وعلم الإجتماع, وأساتذه جامعيون درسوا في أوروبا وأميركا يملاؤن الجامعات, وأساتذة من دول عربية بإختصاصات متنوعة جاؤا بعقود مع الدولة العراقية, والسفر مسموح لكل المواطنين, بلا قيود, والناس تخرج للسياحة ثم تعود. والموظفين رواتبهم ممتازة تمكنهم من العيش الكريم, وبناء بيت للعائلة, وامتلاك سيارة معقولة, والسفر في الصيف الى لبنان أو مصر أو تركيا من دول الجوار..
وكانت دور النشر تطبع الكتب الأدبية والعلمية والثقافية. العربية أو المترجمة.......
كل بيت تقريبا فيه مكتبة...تاريخ أو أدب وشعر وقصص وكتب سياسة, العراقيون لا يقدروا أن يعيشوا بدون السياسة...
والطلاب يتخرجون من الجامعات فيجدون التعيين فورا, في قطاع الدولة أو هامش صغير من القطاع الخاص.
قطاع الدولة كان الأكبر دائما...
والأسواق المركزية للدولة تستورد كل شيء وتبيعه للمواطنين بأسعار رخيصة , ملابس وأدوات منزلية والعاب وهدايا وتحف وزجاجيات وكريستال وأدوات موسيقية...
والسينما تعرض دائما أحدث الأفلام, العربية والغربية, والرواد من العوائل أو الشباب, والمسارح دائما مزدحمة بمسرحيات محلية أو مقتبسة من أجنبية, والعوائل تذهب نهاية الأسبوع لحضور مسرحية...
كان ذلك هو إيقاع الحياة العراقية, في بغداد , حيث عشت , حتى تخرجت من الجامعة, وتزوجت, وغادرتها.
****************
وحين عشت في عمان ,أحسست بوحشة شديدة, أين حياة بغداد الصاخبة الغنية , الغنية بالعلم والأدب والمعرفة والثقافة وتجارب الحياة اليومية...
وكنت أصاب بالهلع حين أسمع عراقيا يتحدث في شوارع عمان, أركض صوبه و أفتح معه حديثا حميما, أين ومتى وكيف...
ثم أرسل معه رسالة الى أهلي بعد أن أدعوه لشرب الشاي في بيتنا...هكذا ببساطة العراقيين وسرعة ثقتهم بالآخرين وتآلفهم...
وكنت أبكي دائما حين أسمع أغنية سعدون جابر : يا طيور الطايرة مري بهلي...يا شمسنا الدايرة...
واليوم تنزل دموعي حسرة على العراقيين وما صاروا اليه...تشتتوا في أوطان شتى...مزقتهم قسوة الحياة وحماقات صدام حسين ومن تآمرمعهم لتدمير العراق, بعلم أو بدون علم منه....
صار العراقيون مهاجرون...مثل طيور لا تعرف الإستقرار في بيئة واحدة...
غنيهم مهاجر مكسور الجناح, يذرف الدمع على بغداد كلما سمع إسمها , ويشتاق الى دجلة, وذكريات جميلة مضت ولن تعود..
فكيف هو حال الفقير إذن ؟
الغربة عن الوطن موت بطيء....
أعرف هذا, فقد شربت من هذا الكأس سنين طويلة مريرة قاسية.
وأتحمل كل شيء وأنا هنا, مهما يكن من شيء, فأنا بكرامتي, في بيتي, وبين أهلي وأصدقائي...
رغم قسوة الظروف, والحرب والأحتلال, لكنه الوطن, هل ثمة أغلى من الوطن؟
وهو اليوم مثل أم عجوز مريضة, يسعدها رؤية أولادها من حولها , يخففون عنها الشعور بالألم والمرض
وتحزن حين ترى بعضهم قد فر ولم يحتمل البقاء....
إيه, انها محنة....ولابد للمحن أن تنجلي ذات يوم....
********************
أتذكر كل هذا وافكر...كيف تحولت عمان الى هذا النموذج الغربي بأسرع ما يكون؟
الحياة غالية وفرص العمل محدودة والرواتب لم تتحرك بزيادات منذ كنت أعمل هناك , حتى 1991
المهندس مثلي راتبه 500-600 دينار , والآن عدت فوجدت الراتب نفسه لهذه الفئة من المهندسين.
الخريج الجديد راتبه بين 170-200 دينار.(المئة دولار حوالي سبعون دينارا أردنيا )
لم يتغير شيء, بل قلت فرص العمل , وهذا ربما سبب عدم إرتفاع الرواتب.
حسنا , المواد الغذائية والسلع المختلفة والإيجارات وأسعار السيارات, إزدادت بنسبة 3 أضعاف عما كانت عليه عام 1991 , حين غادرت عمان.
كيف يعيش الناس؟
الصحف تمتليء بالإعلانات المحمومة, عن سيارات وبيوت وشقق وأثاث وموبايلات وكومبيوترات
وأجهزة كهربائية منزلية ..كلها تصرخ وتنادي, والبيع بالتقسيط المريح...
طبعا هنا قسط وهناك قسط, فيصبح الإنسان يركض ويلهث صباح مساء ليسدد الاقساط.
الشركات التي تبيع بالأقساط هي أيضا مرتبطة بديون للبنوك...وربما أفلست في يوم ما, كما يحدث , بين سنة وأخرى, ثمة شركات تفلس, ويتم الإعلان في الصحف, وتصبح حديث المجتمع...
أما أنا فهذه المرة قد أقلقني هذا الموضوع كثيرا, وبقيت أفكر, هل هذا النموذج الذي سيصبح عليه العراق الجديد؟
نحن هنا تعودنا أن يكون الماء مبذولا دائما, والكهرباء رخيصة, وفواتير التلفون, والبنزين....
هذه البنود خارج قلق العائلة العراقية...لكنها في عمان, هي البند المقلق الأول...فواتير وضرائب شتى, لا تعد ولا تحصى...والدراسة الجامعية ليست مجانية كالعراق, وأسعار الدواء والمستشفيات عالية وتبدو أرقاما خيالية بالنسبة للعراقيين , والأسعار التي تعودوا أن يدفعونها للطبيب والدواء والمستشفى هنا, قبل الحرب وبعد الحرب...
هل سنصبح مثلهم؟
هل ستاتي الرأسمالية واحتكار وجشع شركات الإستثمار من القطاع الخاص لتبتلع العراق, كما ابتلعت آلاف الأسواق العالمية والمحلية ؟
كيف سنقدر أن نحافظ على ثروات العراق , ونؤمن عيشا كريما للشعب , دونما الغوص في مستنقع الرأسمالية الجشع؟
وظهور طبقة أقلية ذات غنى فاحش, وطبقة أكثرية تلهث من أجل تأمين قوت يومها...
************************
والإنسان هناك, في عمان, أو في دول الغرب, عنده هامش كبير من حرية التعبير..
لكنها تبدو حرية لا يحتاجها أحد....لأنهم يغرقون في دوامات أخرى.
ما جدوى التعبير عن آراءك السياسية وجيوبك فارغة؟
إنها نوع من الترف الذي لا حاجة له, لا ضرورة له...
إذهب وابحث عن عمل تقضي به وقتك, وتشتري به ما يسد رمقك, والفائض, إن كان ثمة فائض, إصرفه في مطعم أو سينما أو مقهى...فالأوقات الجميلة لا يستغني عنها الإنسان المتعب.
هكذا هو إيقاع الحياة في مدن الغرب, والمدن التي تمشي على خطاها...
وبغداد ما زالت مثل سيدة محافظة تلتف بعباءتها أو حجابها, وترمق ذلك العالم بنظرة تمتليء بالدهشة والإستغراب والقلق...
وتمط شفتيها وتتساءل: هل سأصبح كواحدة من تلك المدن؟
وهل سيركض العراقيون على إيقاع الحياة السريع اللاهث...أريد....أريد ....أريد .؟؟؟؟
************************
وأتذكر حين قرأت تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية, يصف بعض الكتاب الغابات الجميلة المكتظة التي كانت
تملأ البلاد, والثروات المعدنية والحيوانية في الجبال والسهول , والأسماك في البحيرات والأنهار, وبيئة جميلة نقية...
أين أصبح كل ذلك اليوم؟
البيئة لوثها دخان المصانع والمعامل بلا رحمة...والثروات استنزفت بطريقة جائرة جشعة وبلا حدود...
وكم عمر اميركا؟
البدايات من المستوطنين كانت تقريبا في عام 1602 .
وخلال 400 عام , تم إستنزاف معظم هذه الثروات؟
والعراق عمره اكثر من خمسة آلاف سنة, وما زال يمتليء بالثروات المعدنية والنفط...
أفتح الأطلس المدرسي وأنظر لخرائط العراق : الثروة المائية, أنهار كبيرة وصغيرة من الشمال الى الجنوب وبحيرات في الوسط والجنوب, وأهوار فيها ثروة سمكية وطيور .
وخارطة الثروة المعدنية : من الشمال الى الجنوب , آبار نفط وغاز طبيعي ومعادن مثل الكبريت والحديد والرصاص والزنك والنحاس والفحم والرخام والفوسفات والكروم وقائمة طويلة تكاد لا تنتهي......
وآثار من الشمال الى الجنوب, من العصر السومري والآشوري والبابلي وما قبل الإسلام آثار فارسية وخلال الدولة الإسلامية قصور عباسية ومآذن وقلاع أثرية, وأماكن دينية مقدسة وأضرحة آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
والثروة النباتية والحيوانية: حيث تقسمت أرض العراق الى مناطق زراعة الحبوب , وأخرى للقطن, وأخرى للتبغ , وأخرى للرز, وأخرى لأشجار الفاكهة, ثم غابات , ثم بساتين نخيل...
ومناطق رعي أغنام ومواشي وجمال وخيول وغزلان...
أنظر بدهشة وتعجب, كم من الثروات في أرض العراق؟
وكم من الغزوات الأجنبية مرت على هذه الأرض؟
الفرس والأتراك والمغول ثم الإستعمار البريطاني, ثم الإحتلال الأمريكي...
العراق أرض الخيرات, أرض الماء والخصوبة والنفط والمعادن الأخرى...لكني اظن أن شعبه هو الوحيد الذي لم تسنح له الفرصة كاملة للتمتع بهذه الخيرات....
والعراقيون يتحدثون همسا أو بصوت مسموع عن شركات أمريكية بدأت تحفر وتستثمر المعادن من الأرض هنا, وتصدرها الى أميركا أو غيرها من الدول..
علمتني هذه الهمسات بين الناس أنها في معظم الأحيان صحيحة, إن لم تكن في كل الأحيان.
وخصوصا قصص سجن أبو غريب, حيث سمعتها ولم أصدقها في البداية.
هل ستبدأ الرأسمالية بمص دم العراق كما فعلت ومصت دم القارة الأمريكية؟
ويا ليتها تشبع...
كأن ثمة لعنة عليها من السماء...كلي واشربي ولا تشبعي أبدا...ستظلين جائعة أبد الدهر.
هكذا أرى حال الرأسمالية وهي تبحث عن ضحية جديدة...عن دم جديد تضخه الى عروقها المصابة بالشيخوخة, عساها تستعيد عافيتها...
وأراني أشفق على العراق ومما سيراه منها...
وأتساءل في داخلي , وثمة ابتسامة تملأ اعماقي مرارة: هل سيكون العراق هو الضحية الأخيرة؟
أم هناك ثمة ضحايا جديدة على الطريق؟
ايران وسوريا مثلا ؟؟
*****************************
لا أملك أجوبة على أسئلتي..
الله وحده يعلم ما تخفي لنا الأيام....
مساء الخير ..
الساعة الآن الخامسة عصرا , الجو حار ودرجات الحرارة أكثر من 45 مئوية,والكهرياء تنقطع وتجيء بجدول 3 ساعات, ثم 3 ساعات .
بغداد هادئة, ويوجد كثير من الشرطة والجيش العراقيين, ولكن الدبابات والطائرات لا تفارقنا صباح مساء,
بصوتها وشكلها كأنما ثمة من يريد ان يقول نحن هنا , فلا تنسونا, هه هه.
الشوارع أقل إزدحاما في النهار ربما بسبب العطلة المدرسية , وشدة الحر , والخوف من التفجيرات, تجعل الناس أقل ما يكونوا رغبة في مغادرة منازلهم.
في سنوات ما قبل الحرب, كان العراقيون يخرجون للنوادي أو المطاعم قرب نهر دجلة, بعد العاشرة مساء, ويعودون لبيوتهم مع ساعات الفجر...
أما الأن, فننسلق من الحر في بيوتنا, ونكاد نموت من الملل , ونواسي انفسنا أن هذا الحال أفضل من المغامرة بحياتنا وحياة أولادنا ....
نتمنى جميعا أن تمر هذه الظروف الصعبة, وتنتهي بسرعة, ويعود الأمان ...
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل... .
****************************
عندما كنت في عمان , بقيت أفكر كل يوم..
عمان فيها أمان وأستقرار..ومحلات تجارية ومطاعم متنوعةوشوارع نظيفة وفنادق جميلة وحرية لا حدود لها..
في الكلام والملابس وأسلوب الحياة.
لكني اعرف أن الناس هناك متضايقون من الغلاء وقلة فرص العمل...
البنزين والكهرباء وفواتير التلفون غالية, والماء شحيح خصوصا في الصيف, والسياح القادمين يزيدون من أزمة الماء..
وإيجارات الشقق في ارتفاع, وأسعار شراء الشقق أو الأراضي كذلك في ارتفاع...وربما هجرة آلاف العراقيين واستقرارهم في عمان هو واحد من الأسباب.
لكني أعرف عمان منذ 1978 حين دخلتها أول مرة قادمة من بيروت وبغداد, أحمل رائد على ذراعي وكان عمره أربعون يوما...
كانت عمان مدينة صغيرة محافظة مغلقة مثل قرية..
.وكانت بغداد تعيش أيامها الذهبية , قبل الحرب على إيران وحماقات صدام حسين. حيث الجامعات العراقية فيها طلاب من جميع الدول العربية تقريبا..حركة الثقافة كانت شديدة, بغداد كانت تمتليء بالشعراء والفنانين ورجال الفكر والتراث وعلم الإجتماع, وأساتذه جامعيون درسوا في أوروبا وأميركا يملاؤن الجامعات, وأساتذة من دول عربية بإختصاصات متنوعة جاؤا بعقود مع الدولة العراقية, والسفر مسموح لكل المواطنين, بلا قيود, والناس تخرج للسياحة ثم تعود. والموظفين رواتبهم ممتازة تمكنهم من العيش الكريم, وبناء بيت للعائلة, وامتلاك سيارة معقولة, والسفر في الصيف الى لبنان أو مصر أو تركيا من دول الجوار..
وكانت دور النشر تطبع الكتب الأدبية والعلمية والثقافية. العربية أو المترجمة.......
كل بيت تقريبا فيه مكتبة...تاريخ أو أدب وشعر وقصص وكتب سياسة, العراقيون لا يقدروا أن يعيشوا بدون السياسة...
والطلاب يتخرجون من الجامعات فيجدون التعيين فورا, في قطاع الدولة أو هامش صغير من القطاع الخاص.
قطاع الدولة كان الأكبر دائما...
والأسواق المركزية للدولة تستورد كل شيء وتبيعه للمواطنين بأسعار رخيصة , ملابس وأدوات منزلية والعاب وهدايا وتحف وزجاجيات وكريستال وأدوات موسيقية...
والسينما تعرض دائما أحدث الأفلام, العربية والغربية, والرواد من العوائل أو الشباب, والمسارح دائما مزدحمة بمسرحيات محلية أو مقتبسة من أجنبية, والعوائل تذهب نهاية الأسبوع لحضور مسرحية...
كان ذلك هو إيقاع الحياة العراقية, في بغداد , حيث عشت , حتى تخرجت من الجامعة, وتزوجت, وغادرتها.
****************
وحين عشت في عمان ,أحسست بوحشة شديدة, أين حياة بغداد الصاخبة الغنية , الغنية بالعلم والأدب والمعرفة والثقافة وتجارب الحياة اليومية...
وكنت أصاب بالهلع حين أسمع عراقيا يتحدث في شوارع عمان, أركض صوبه و أفتح معه حديثا حميما, أين ومتى وكيف...
ثم أرسل معه رسالة الى أهلي بعد أن أدعوه لشرب الشاي في بيتنا...هكذا ببساطة العراقيين وسرعة ثقتهم بالآخرين وتآلفهم...
وكنت أبكي دائما حين أسمع أغنية سعدون جابر : يا طيور الطايرة مري بهلي...يا شمسنا الدايرة...
واليوم تنزل دموعي حسرة على العراقيين وما صاروا اليه...تشتتوا في أوطان شتى...مزقتهم قسوة الحياة وحماقات صدام حسين ومن تآمرمعهم لتدمير العراق, بعلم أو بدون علم منه....
صار العراقيون مهاجرون...مثل طيور لا تعرف الإستقرار في بيئة واحدة...
غنيهم مهاجر مكسور الجناح, يذرف الدمع على بغداد كلما سمع إسمها , ويشتاق الى دجلة, وذكريات جميلة مضت ولن تعود..
فكيف هو حال الفقير إذن ؟
الغربة عن الوطن موت بطيء....
أعرف هذا, فقد شربت من هذا الكأس سنين طويلة مريرة قاسية.
وأتحمل كل شيء وأنا هنا, مهما يكن من شيء, فأنا بكرامتي, في بيتي, وبين أهلي وأصدقائي...
رغم قسوة الظروف, والحرب والأحتلال, لكنه الوطن, هل ثمة أغلى من الوطن؟
وهو اليوم مثل أم عجوز مريضة, يسعدها رؤية أولادها من حولها , يخففون عنها الشعور بالألم والمرض
وتحزن حين ترى بعضهم قد فر ولم يحتمل البقاء....
إيه, انها محنة....ولابد للمحن أن تنجلي ذات يوم....
********************
أتذكر كل هذا وافكر...كيف تحولت عمان الى هذا النموذج الغربي بأسرع ما يكون؟
الحياة غالية وفرص العمل محدودة والرواتب لم تتحرك بزيادات منذ كنت أعمل هناك , حتى 1991
المهندس مثلي راتبه 500-600 دينار , والآن عدت فوجدت الراتب نفسه لهذه الفئة من المهندسين.
الخريج الجديد راتبه بين 170-200 دينار.(المئة دولار حوالي سبعون دينارا أردنيا )
لم يتغير شيء, بل قلت فرص العمل , وهذا ربما سبب عدم إرتفاع الرواتب.
حسنا , المواد الغذائية والسلع المختلفة والإيجارات وأسعار السيارات, إزدادت بنسبة 3 أضعاف عما كانت عليه عام 1991 , حين غادرت عمان.
كيف يعيش الناس؟
الصحف تمتليء بالإعلانات المحمومة, عن سيارات وبيوت وشقق وأثاث وموبايلات وكومبيوترات
وأجهزة كهربائية منزلية ..كلها تصرخ وتنادي, والبيع بالتقسيط المريح...
طبعا هنا قسط وهناك قسط, فيصبح الإنسان يركض ويلهث صباح مساء ليسدد الاقساط.
الشركات التي تبيع بالأقساط هي أيضا مرتبطة بديون للبنوك...وربما أفلست في يوم ما, كما يحدث , بين سنة وأخرى, ثمة شركات تفلس, ويتم الإعلان في الصحف, وتصبح حديث المجتمع...
أما أنا فهذه المرة قد أقلقني هذا الموضوع كثيرا, وبقيت أفكر, هل هذا النموذج الذي سيصبح عليه العراق الجديد؟
نحن هنا تعودنا أن يكون الماء مبذولا دائما, والكهرباء رخيصة, وفواتير التلفون, والبنزين....
هذه البنود خارج قلق العائلة العراقية...لكنها في عمان, هي البند المقلق الأول...فواتير وضرائب شتى, لا تعد ولا تحصى...والدراسة الجامعية ليست مجانية كالعراق, وأسعار الدواء والمستشفيات عالية وتبدو أرقاما خيالية بالنسبة للعراقيين , والأسعار التي تعودوا أن يدفعونها للطبيب والدواء والمستشفى هنا, قبل الحرب وبعد الحرب...
هل سنصبح مثلهم؟
هل ستاتي الرأسمالية واحتكار وجشع شركات الإستثمار من القطاع الخاص لتبتلع العراق, كما ابتلعت آلاف الأسواق العالمية والمحلية ؟
كيف سنقدر أن نحافظ على ثروات العراق , ونؤمن عيشا كريما للشعب , دونما الغوص في مستنقع الرأسمالية الجشع؟
وظهور طبقة أقلية ذات غنى فاحش, وطبقة أكثرية تلهث من أجل تأمين قوت يومها...
************************
والإنسان هناك, في عمان, أو في دول الغرب, عنده هامش كبير من حرية التعبير..
لكنها تبدو حرية لا يحتاجها أحد....لأنهم يغرقون في دوامات أخرى.
ما جدوى التعبير عن آراءك السياسية وجيوبك فارغة؟
إنها نوع من الترف الذي لا حاجة له, لا ضرورة له...
إذهب وابحث عن عمل تقضي به وقتك, وتشتري به ما يسد رمقك, والفائض, إن كان ثمة فائض, إصرفه في مطعم أو سينما أو مقهى...فالأوقات الجميلة لا يستغني عنها الإنسان المتعب.
هكذا هو إيقاع الحياة في مدن الغرب, والمدن التي تمشي على خطاها...
وبغداد ما زالت مثل سيدة محافظة تلتف بعباءتها أو حجابها, وترمق ذلك العالم بنظرة تمتليء بالدهشة والإستغراب والقلق...
وتمط شفتيها وتتساءل: هل سأصبح كواحدة من تلك المدن؟
وهل سيركض العراقيون على إيقاع الحياة السريع اللاهث...أريد....أريد ....أريد .؟؟؟؟
************************
وأتذكر حين قرأت تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية, يصف بعض الكتاب الغابات الجميلة المكتظة التي كانت
تملأ البلاد, والثروات المعدنية والحيوانية في الجبال والسهول , والأسماك في البحيرات والأنهار, وبيئة جميلة نقية...
أين أصبح كل ذلك اليوم؟
البيئة لوثها دخان المصانع والمعامل بلا رحمة...والثروات استنزفت بطريقة جائرة جشعة وبلا حدود...
وكم عمر اميركا؟
البدايات من المستوطنين كانت تقريبا في عام 1602 .
وخلال 400 عام , تم إستنزاف معظم هذه الثروات؟
والعراق عمره اكثر من خمسة آلاف سنة, وما زال يمتليء بالثروات المعدنية والنفط...
أفتح الأطلس المدرسي وأنظر لخرائط العراق : الثروة المائية, أنهار كبيرة وصغيرة من الشمال الى الجنوب وبحيرات في الوسط والجنوب, وأهوار فيها ثروة سمكية وطيور .
وخارطة الثروة المعدنية : من الشمال الى الجنوب , آبار نفط وغاز طبيعي ومعادن مثل الكبريت والحديد والرصاص والزنك والنحاس والفحم والرخام والفوسفات والكروم وقائمة طويلة تكاد لا تنتهي......
وآثار من الشمال الى الجنوب, من العصر السومري والآشوري والبابلي وما قبل الإسلام آثار فارسية وخلال الدولة الإسلامية قصور عباسية ومآذن وقلاع أثرية, وأماكن دينية مقدسة وأضرحة آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
والثروة النباتية والحيوانية: حيث تقسمت أرض العراق الى مناطق زراعة الحبوب , وأخرى للقطن, وأخرى للتبغ , وأخرى للرز, وأخرى لأشجار الفاكهة, ثم غابات , ثم بساتين نخيل...
ومناطق رعي أغنام ومواشي وجمال وخيول وغزلان...
أنظر بدهشة وتعجب, كم من الثروات في أرض العراق؟
وكم من الغزوات الأجنبية مرت على هذه الأرض؟
الفرس والأتراك والمغول ثم الإستعمار البريطاني, ثم الإحتلال الأمريكي...
العراق أرض الخيرات, أرض الماء والخصوبة والنفط والمعادن الأخرى...لكني اظن أن شعبه هو الوحيد الذي لم تسنح له الفرصة كاملة للتمتع بهذه الخيرات....
والعراقيون يتحدثون همسا أو بصوت مسموع عن شركات أمريكية بدأت تحفر وتستثمر المعادن من الأرض هنا, وتصدرها الى أميركا أو غيرها من الدول..
علمتني هذه الهمسات بين الناس أنها في معظم الأحيان صحيحة, إن لم تكن في كل الأحيان.
وخصوصا قصص سجن أبو غريب, حيث سمعتها ولم أصدقها في البداية.
هل ستبدأ الرأسمالية بمص دم العراق كما فعلت ومصت دم القارة الأمريكية؟
ويا ليتها تشبع...
كأن ثمة لعنة عليها من السماء...كلي واشربي ولا تشبعي أبدا...ستظلين جائعة أبد الدهر.
هكذا أرى حال الرأسمالية وهي تبحث عن ضحية جديدة...عن دم جديد تضخه الى عروقها المصابة بالشيخوخة, عساها تستعيد عافيتها...
وأراني أشفق على العراق ومما سيراه منها...
وأتساءل في داخلي , وثمة ابتسامة تملأ اعماقي مرارة: هل سيكون العراق هو الضحية الأخيرة؟
أم هناك ثمة ضحايا جديدة على الطريق؟
ايران وسوريا مثلا ؟؟
*****************************
لا أملك أجوبة على أسئلتي..
الله وحده يعلم ما تخفي لنا الأيام....