Monday, February 09, 2004
الأثنين 9/2
ما زلت في عمان...سأرجع الى بغداد نهاية الأسبوع ان شاء الله....
الآن أريد الدخول قليلا في تفاصيل صغيرة ...تخص الحياة في عمان .
في اليومين السايقين , حدث أمامي موقفين..جعلاني أتذكر حياتي القاسية في الغربة مرة أخرى .
سجلت في معهد , صاحبه قريب لزوجي , لتقوية الطباعة. طبعا لي معاملة خاصة. مع انني التزمت بدفع رسوم الدورة لمدة اسبوع.. دفعت نصف الرسوم المطلوبة لشهر , عن دوامي لأسبوع , أختي اعترضت وقالت هذا كثير
قلت لا يهم ..لا أريد أن يحسوا انني أستغل القرابة من أجل الإستفادة .. سأحاول الإلتزام بالدوام ما أمكن ...في الصباح أو المساء .
بعد يومين من دوامي , تعرفت الى زميلي في المعهد , يعمل محاسبا في شركة ..وكان يعمل على برنامج أكسل ..
وكنت أطبع ...ووجدتها ورطة ,عملية الإلتزام بسطر الإرتكاز وتثبيت الأصابع وتركيز جهدي في تذكر أين يقف أصبعي ؟ وعلى أي حرف بالضبط ؟ ..أصابتني هستيريا وضحك في البداية ووجدتها عملية تعذيب ..مسألة البحلقة في الشاشة ..والأصابع تعمل لوحدها , وأشفقت على السكرتيرات في كل أنحاء العالم..وأصابني إحباط ,
مهندسة لا تقدر أن تكون سكرتيرة !
وفي غمرة إنزعاجي وانشغالي بإتقان عمل الواجب الذي فرضته المسؤولة عن الصف ,التي غادرت بعد نهاية دوامها. جاء المحاسب , وسألني بشيء من الخجل والتردد ,, هل تفهمين في الإنترنت ؟ ابتسمت وقلت ..قليلا ..ماذا تريد ؟
قال شاكيا ..لا أعرف شيئا ,ساعديني ..ولماذا لا تعرف ؟ كم درسا أخذت ؟
قال أعطتني المسؤولة عن القاعة شرحا لخمسة دقائق عن الإيميل والإنترنت ,بعد نهاية عملي في برنامج أكسل . ثم غابت ..وأنا أخجل أن أسأل غيرها ..قلت لماذا تخجل ؟ أنت دفعت أجور دورة شاملة ..والمفروض أن تخرج من هنا وأنت فاهم ...هز رأسه موافقا ..لكنه خائف . مم تخاف ؟ سألته ..إذهب واشرح موقفك للمسؤول عن الدورات هو سيكلم واحدة من البنات المشرفات فتساعدك..كان موقفه سلبيا...أدرت الكرسي وسحبته وذهبت وجلست أمام الكومبيوتر الذي يعمل عليه... أمسكت الماوس وحركته وشرحت له عملية الدخول الى موقع أخبار مثلا وفيه صفحات رياضة واقتصاد وتكنولوجيا ..علمته طريقة فتح كل عنوان ثم العودة للصفحة الرئيسية..كان سعيدا جدا..تركته وسحبت الكرسي..وعدت الى طاولتي..ثم عاد ونادى ..أين ذهبت الصفحة ؟.عدت فوجدته خرج نهائيا من البرنامج ..ماذا فعلت ؟ سألته ...لا شيء..قال..فقط يدي حركت الماوس ولا أدري ماذا حدث ..
انت لا تعرف حتى كيف تمسك الماوس وتسيطر على الحركة ! قلت غاضبة ..كم درسا أخذت ؟ عشرة !
قال ..ضحكت بعصبية ..عشرة دروس ولم تتعلم بعد كيف تمسك الماوس ؟ ماذا تعلمت اذن ؟ لماذا لا تسأل؟
أسألها ولا تبالي بي ...يقصد المسؤولة من القاعة ...أنت تعرفين الناس هنا ..الذي حالته المالية جيدة يحترمونه
والموظف الفقير مثلي من يبالي به ؟ استفزتني كلماته ..وذكرتني بنفسي بداية حياتي خجولة وحساسة وأتوق للمعرفة ومن حولي مهندسين أنانيين أكثر مني خبرة لكنهم يبخلون بمساعدتي ...عندما بدأت حياتي المهنية في بيروت ثم عمان ...
خرجت من القاعة صوب المشرف على القاعات ...وناديته فجاء مهرولا مبتسما ..نعم ست ؟ قال يستفهم .
قلت له غاضبة ..لماذا هذا الطالب يداوم عندكم لعشرة دروس ..ولا يعرف أبسط الأشياء ؟
تغير وجهه وظهر عليه الغضب...ثم دخل القاعة وفتح حوارا مع ذلك المسكين , خلاصته أنت دفعت 25 دينارا وتريد أن تفهم كل شيء؟ ادفع 40 دينارا أخرى وسنعلمك باقي التفاصيل ...
ثم خرج من القاعة غاضبا يبربر مع نفسه من غباء الناس وقلة ذوقهم ...
ظل المحاسب حزينا يبحلق في وجهي ...ابتسمت وقلت له في رفق ..حسنا كما قال ..خذ دورة أخرى لتتحسن معلوماتك ..من أين ؟ قال ...لا أقدر على هذه المصاريف ...أضاف , وأشاح وجهه صوب الشاشة..
غرقت في دهشة ...هذه أخلاق مستوردة ,أخلاق الدولة الرأسمالية ...تترسخ فتفقد الناس علاقاتهم الحميمة...
كل شيء من أجل المال ...أليس هذا الشعار هو الذي يعيشه كثير من البشر...ويحطم ما تبقى من انسانيتهم ؟
*****
في المساء ..
ذهبت مع رائد الى مقهى انترنت ...المكان لطيف وهاديء ونظيف ..
والجالسين فيه معظمهم من الشباب صغار السن ... وهدوء جميل يلف القاعة..
ثم فجأة ..ذهب الهدوء ..كان ثمة جدال بين أحد الزبائن والمحاسب...تدفع دينارين ...لا ..أدفع دينارا واحدا ..
أنتم لصوص ..أترك هويتك , وغدا تسدد باقي المبلغ ...لا أريد ..لست مقتنعا بالحساب ..أنظر الى الشاشة ..هنا على الكومبيوتر يظهر رقم طاولتك والوقت الذي قضيته وحسابك ...كم حسابي ؟ هنا مكتوب 1.95 دينار لماذا تريد 2 دينار أنت لص ...وأستمر الجدال 35 دقيقة..ولا أحد في القاعة يهتم أو يتدخل ...
ضحكنا أنا ورائد مما يحدث , انه شيء مخجل ..تدخل رائد وأعطى اقتراحات , لكن الزبون كان غاضبا ..ولم يوافق ..قال رائد للجالسين في القاعة ..دعونا نحل المشكلة ..ندفع الدينار مشاركة بيننا ويذهب الزبون ويسود الهدوء..كلهم رفضوا الفكرة ..ماشأننا ؟ قالوا ثم ألتفتوا الى شاشاتهم ...
قلت لرائد ادفع عنه كامل المبلغ وحل المشكلة ...قال : ماما هي ليست مسألة دينار أو اثنين ...هذه مسألة قيم ومفاهيم ..
خرجنا من القاعة مدهوشين نضحك مما رأينا ...
هل ستتحول بغداد الى هذا النموذج ؟ بعد أن نطبق الحضارة الغربية ؟
قلت لرائد ..أتتذكر ضحكنا ودهشتنا حين دخلنا مطعم الكباب في بغداد قبل شهور ؟ يأتي الزبائن في طريق خروجهم من المحل ..وبدون وصولات أو فواتير ..يسألهم المحاسب بهدوء ..ماذا طلب الشباب ؟ فيقولون كذا نفر كباب ..مع المشرويات الغازية كذا علبة ...ويجيبهم المحاسب ..المطلوب كذا ..فيدفعون ..ويخرجون ..شكرا أغاتي ..أهلا وسهلا حبيبي ..يفترقون على هذه الكلمات...
هل الحصار والتخلف جعلنا نلتزم بتلك القيم ؟ وأبقى في قلوبنا بقية من شفقة على الفقير واليتيم والمحتاج ؟
إن كان المستقبل الواعد ..أن نكون قساة القلوب ...عبيد المادة ..فأنا أقترح أن يتمتع به غيرنا ممن تورط بتلك القيم ونسي كيف يعود للأصول أو ربما تكبر عليها ..
بكل آلامنا في العراق ...ما زال في قلوبنا رحمة تجاه بعضنا ..وتقدير لبعضنا ...ومن أجل المال ممكن أن يكون السبب الأخير ...وليس الأول والوحيد..
ها أنا سعيدة...فقد وجدت وجها ايجابيا لحياتنا هناك ...أفتقده هنا ...أفتقده بشدة !
****
ما زلت في عمان...سأرجع الى بغداد نهاية الأسبوع ان شاء الله....
الآن أريد الدخول قليلا في تفاصيل صغيرة ...تخص الحياة في عمان .
في اليومين السايقين , حدث أمامي موقفين..جعلاني أتذكر حياتي القاسية في الغربة مرة أخرى .
سجلت في معهد , صاحبه قريب لزوجي , لتقوية الطباعة. طبعا لي معاملة خاصة. مع انني التزمت بدفع رسوم الدورة لمدة اسبوع.. دفعت نصف الرسوم المطلوبة لشهر , عن دوامي لأسبوع , أختي اعترضت وقالت هذا كثير
قلت لا يهم ..لا أريد أن يحسوا انني أستغل القرابة من أجل الإستفادة .. سأحاول الإلتزام بالدوام ما أمكن ...في الصباح أو المساء .
بعد يومين من دوامي , تعرفت الى زميلي في المعهد , يعمل محاسبا في شركة ..وكان يعمل على برنامج أكسل ..
وكنت أطبع ...ووجدتها ورطة ,عملية الإلتزام بسطر الإرتكاز وتثبيت الأصابع وتركيز جهدي في تذكر أين يقف أصبعي ؟ وعلى أي حرف بالضبط ؟ ..أصابتني هستيريا وضحك في البداية ووجدتها عملية تعذيب ..مسألة البحلقة في الشاشة ..والأصابع تعمل لوحدها , وأشفقت على السكرتيرات في كل أنحاء العالم..وأصابني إحباط ,
مهندسة لا تقدر أن تكون سكرتيرة !
وفي غمرة إنزعاجي وانشغالي بإتقان عمل الواجب الذي فرضته المسؤولة عن الصف ,التي غادرت بعد نهاية دوامها. جاء المحاسب , وسألني بشيء من الخجل والتردد ,, هل تفهمين في الإنترنت ؟ ابتسمت وقلت ..قليلا ..ماذا تريد ؟
قال شاكيا ..لا أعرف شيئا ,ساعديني ..ولماذا لا تعرف ؟ كم درسا أخذت ؟
قال أعطتني المسؤولة عن القاعة شرحا لخمسة دقائق عن الإيميل والإنترنت ,بعد نهاية عملي في برنامج أكسل . ثم غابت ..وأنا أخجل أن أسأل غيرها ..قلت لماذا تخجل ؟ أنت دفعت أجور دورة شاملة ..والمفروض أن تخرج من هنا وأنت فاهم ...هز رأسه موافقا ..لكنه خائف . مم تخاف ؟ سألته ..إذهب واشرح موقفك للمسؤول عن الدورات هو سيكلم واحدة من البنات المشرفات فتساعدك..كان موقفه سلبيا...أدرت الكرسي وسحبته وذهبت وجلست أمام الكومبيوتر الذي يعمل عليه... أمسكت الماوس وحركته وشرحت له عملية الدخول الى موقع أخبار مثلا وفيه صفحات رياضة واقتصاد وتكنولوجيا ..علمته طريقة فتح كل عنوان ثم العودة للصفحة الرئيسية..كان سعيدا جدا..تركته وسحبت الكرسي..وعدت الى طاولتي..ثم عاد ونادى ..أين ذهبت الصفحة ؟.عدت فوجدته خرج نهائيا من البرنامج ..ماذا فعلت ؟ سألته ...لا شيء..قال..فقط يدي حركت الماوس ولا أدري ماذا حدث ..
انت لا تعرف حتى كيف تمسك الماوس وتسيطر على الحركة ! قلت غاضبة ..كم درسا أخذت ؟ عشرة !
قال ..ضحكت بعصبية ..عشرة دروس ولم تتعلم بعد كيف تمسك الماوس ؟ ماذا تعلمت اذن ؟ لماذا لا تسأل؟
أسألها ولا تبالي بي ...يقصد المسؤولة من القاعة ...أنت تعرفين الناس هنا ..الذي حالته المالية جيدة يحترمونه
والموظف الفقير مثلي من يبالي به ؟ استفزتني كلماته ..وذكرتني بنفسي بداية حياتي خجولة وحساسة وأتوق للمعرفة ومن حولي مهندسين أنانيين أكثر مني خبرة لكنهم يبخلون بمساعدتي ...عندما بدأت حياتي المهنية في بيروت ثم عمان ...
خرجت من القاعة صوب المشرف على القاعات ...وناديته فجاء مهرولا مبتسما ..نعم ست ؟ قال يستفهم .
قلت له غاضبة ..لماذا هذا الطالب يداوم عندكم لعشرة دروس ..ولا يعرف أبسط الأشياء ؟
تغير وجهه وظهر عليه الغضب...ثم دخل القاعة وفتح حوارا مع ذلك المسكين , خلاصته أنت دفعت 25 دينارا وتريد أن تفهم كل شيء؟ ادفع 40 دينارا أخرى وسنعلمك باقي التفاصيل ...
ثم خرج من القاعة غاضبا يبربر مع نفسه من غباء الناس وقلة ذوقهم ...
ظل المحاسب حزينا يبحلق في وجهي ...ابتسمت وقلت له في رفق ..حسنا كما قال ..خذ دورة أخرى لتتحسن معلوماتك ..من أين ؟ قال ...لا أقدر على هذه المصاريف ...أضاف , وأشاح وجهه صوب الشاشة..
غرقت في دهشة ...هذه أخلاق مستوردة ,أخلاق الدولة الرأسمالية ...تترسخ فتفقد الناس علاقاتهم الحميمة...
كل شيء من أجل المال ...أليس هذا الشعار هو الذي يعيشه كثير من البشر...ويحطم ما تبقى من انسانيتهم ؟
*****
في المساء ..
ذهبت مع رائد الى مقهى انترنت ...المكان لطيف وهاديء ونظيف ..
والجالسين فيه معظمهم من الشباب صغار السن ... وهدوء جميل يلف القاعة..
ثم فجأة ..ذهب الهدوء ..كان ثمة جدال بين أحد الزبائن والمحاسب...تدفع دينارين ...لا ..أدفع دينارا واحدا ..
أنتم لصوص ..أترك هويتك , وغدا تسدد باقي المبلغ ...لا أريد ..لست مقتنعا بالحساب ..أنظر الى الشاشة ..هنا على الكومبيوتر يظهر رقم طاولتك والوقت الذي قضيته وحسابك ...كم حسابي ؟ هنا مكتوب 1.95 دينار لماذا تريد 2 دينار أنت لص ...وأستمر الجدال 35 دقيقة..ولا أحد في القاعة يهتم أو يتدخل ...
ضحكنا أنا ورائد مما يحدث , انه شيء مخجل ..تدخل رائد وأعطى اقتراحات , لكن الزبون كان غاضبا ..ولم يوافق ..قال رائد للجالسين في القاعة ..دعونا نحل المشكلة ..ندفع الدينار مشاركة بيننا ويذهب الزبون ويسود الهدوء..كلهم رفضوا الفكرة ..ماشأننا ؟ قالوا ثم ألتفتوا الى شاشاتهم ...
قلت لرائد ادفع عنه كامل المبلغ وحل المشكلة ...قال : ماما هي ليست مسألة دينار أو اثنين ...هذه مسألة قيم ومفاهيم ..
خرجنا من القاعة مدهوشين نضحك مما رأينا ...
هل ستتحول بغداد الى هذا النموذج ؟ بعد أن نطبق الحضارة الغربية ؟
قلت لرائد ..أتتذكر ضحكنا ودهشتنا حين دخلنا مطعم الكباب في بغداد قبل شهور ؟ يأتي الزبائن في طريق خروجهم من المحل ..وبدون وصولات أو فواتير ..يسألهم المحاسب بهدوء ..ماذا طلب الشباب ؟ فيقولون كذا نفر كباب ..مع المشرويات الغازية كذا علبة ...ويجيبهم المحاسب ..المطلوب كذا ..فيدفعون ..ويخرجون ..شكرا أغاتي ..أهلا وسهلا حبيبي ..يفترقون على هذه الكلمات...
هل الحصار والتخلف جعلنا نلتزم بتلك القيم ؟ وأبقى في قلوبنا بقية من شفقة على الفقير واليتيم والمحتاج ؟
إن كان المستقبل الواعد ..أن نكون قساة القلوب ...عبيد المادة ..فأنا أقترح أن يتمتع به غيرنا ممن تورط بتلك القيم ونسي كيف يعود للأصول أو ربما تكبر عليها ..
بكل آلامنا في العراق ...ما زال في قلوبنا رحمة تجاه بعضنا ..وتقدير لبعضنا ...ومن أجل المال ممكن أن يكون السبب الأخير ...وليس الأول والوحيد..
ها أنا سعيدة...فقد وجدت وجها ايجابيا لحياتنا هناك ...أفتقده هنا ...أفتقده بشدة !
****