Sunday, February 22, 2004
السبت 21/2
بغداد هذه الأيام تكاد تستقبل شهر الربيع...حيث المشاتل والحدائق مليئة بالورود الموسمية الجميلة, من مختلف الأنواع والأشكال...
وثمة فراشات بيضاء تغدو وتعود أزواجا في حديقة بيتنا , وكأنهن سعيدات مبتهجات ..يقمن بإستعراض ما لإستقبال هذا الفصل.
الربيع فصل قصير في العراق ..وشهور الصيف هي الأكثر طولا خلال السنة ., وفي عمان شهور الشتاء هي الأطول ..والصيف قصير .
وتذكرت انني مررت على أحد المشاتل قبل الحرب الأخيرة بيوم واحد , واشتريت عدة شتلات جميلة للحديقة المنزلية, وكان الوقت نهاية أذار تقريبا ..وضحك الأولاد , وفضحوني , وقالوا لكل أصدقاءهم ان ماما تعيش في عالم آخر لا علاقة له بالحرب القادمة , لكني في الحقيقة كنت محطمة من الداخل , من الخوف مما سيحدث ,,وربما كنت أخدعهم وأخدع نفسي بتلك الورود...
****
عند عودتي اليوم من العمل الى البيت ,شاهدت مجموعة آليات أمريكية تقف على طرف شارع المطار, ثمة عطل ميكانيكي في احداهن ,توقفوا لإصلاحه , ووقف جنود من المجموعة ,يشهرون أسلحتهم باتجاه مرور السيارات المدنية خوفا من هجوم مباغت...ونحن نمر بسرعة خوفا من طلقة قاتلة تأتينا من اتجاههم, وحين تجاوزت ,ابتسمت وفكرت ..من يخاف من الآخر؟
تذكرت رسالة وصلتني قبل فترة من أم أمريكية قلقة على ابنها الذي جاء للعراق جنديا مع الجيش الأمريكي ...وأحسست مدى لوعة قلبها وحزنها,لأن أخباره منقطعة ..وهي تخشى أن يموت من طلقة عراقي معارض للأمريكان, أرسلت لها جوابا تمنيت أن يعود ابنها بالسلامة الى أرض الوطن , وتمنيت لو أعرف أحدا هنا لأسأل عنه وأطمئن أمه ..فأنا أم ..وأحس معها..والمشاعر واحدة.
****
لماذا تختلف وجهات النظر للعراقيين , تجاه الوجود الأمريكي , خصوصا الذين يكتبون مقالات على الانترنت ؟
أنا أظن أن العمر والتجربة الشخصية في الحياة , هما من أهم الأسباب للإختلاف .
فالجيل الذي في العشرينات أو الثلاثينات الآن من عمره , لم يجد فرصة حقيقية للحياة ورؤية النور الا بعد سقوط صدام ...حيث ولد هذا الجيل في أوقات كلها حروب وأزمات وعدوانية ..وكان العراق عبارة عن سجن كبير , ومستقبل غامض يحيط بالشباب ويحبطهم ويحطم أحلامهم في حياة حرة كريمة . توجد أقلية تمكنت من السفر الى خارج العراق بطريقة ما , وحرموا من مواصلة علاقاتهم العائلية , ليعيشوا في المنافي البعيدة , خلاصا من احتمالات سيئة لاتنتهي . ستصيبهم لو ظلوا في العراق .
والآن الشباب هنا سعداء وأحرار..و كأن الحياة عندهم صارت إما ... أو , إما صدام ... أو الأمريكان , وطبعا سيختارون الإحتمال الثاني .
لأنهم ذاقوا المر من الإحتمال الأول . ولم يعاصروا في حياتهم أي احتمال ثالث ...
أو حتى يحلموا به...
أما الجيل الأقدم , والذي في الأربعين من عمره أو اكثر...فلهم رؤيا أخرى مختلفة .
هذا الجيل , وأنا منه , عاش فترات سعيدة من حياته ...ثم رأى جحيم الفترة التي حكم بها صدام , لكنه لا يرى في الوجود الأمريكي هو الحل الأمثل .
****
الذين عاصروا الإستعمار البريطاني أظنهم انقرضوا من الوجود ,لكن الذين عاصروا الحكم الملكي والذي بعده ,
حتى أيام صدام عندهم تجارب كثيرة وأفكار تختلف تماما عن الجيل الجديد ...
وأنا سأتكلم عن تجربتي الخاصة كمثال لجيل عاش فترة الستينات طفلا , والسبعينات شابا ثم تمر المراحل تباعا.
كان العالم أكثر أمانا وهدوءا مما هو الآن ....
عشنا طفولة هادئة في ا لستينات , رغم وجود ثورات ونزاعات داخلية على السلطة , مرة كان الحكم يميل للإتحاد السوفيتي في عهد عبد الكريم قاسم , ثم جاء حكم عبد السلام عارف وكان قوميا , ثم شن عليه البعثيون حربا لأنه أبعدهم عن الحكم ...ثم قتل بحادث سقوط طائرة , لا يخلو من الشكوك حول البعثيين ودورهم في الموضوع , .ثم جاء أخوه لفترة قصيرة ,ففاجأه البعثيون بإنقلاب وأخذوا الحكم لهم ....كان النزاع عراقيا- عراقيا فلم تكن ثمة كوارث عظيمة ...سرعان ما يعود الأمان للبلاد , وتستبدل صور الرئيس السابق على الجدران في الشوارع والمدارس ومؤسسات الدولة , والأمر روتيني يتقبله الجميع كأمر واقع .
وكان ثمة قضايا مشتركة بين الدول العربية., من الشرق للغرب ومن الشمال الى الجنوب , كنا نادرا ما نرى عربيا من وطن آخر , جاء ليعيش أو يعمل في وطن عربي آخر ...كان ثمة استقرار واكتفاء لكل بلد ..
وكانت القضية المركزية التي يتفق عليها العرب وتستعملها ا لحكومات ورقة تودد لشعوبها وورقة شهادة للوطنية الصادقة , هي فلسطين . والكل يبذل ما بوسعه من أجل المساعدة في تقديم حلول لمساعدة ذلك الشعب العربي المظلوم ..المعتدى عليه . والمشرد من أرضه .
وكنا نردد صغارا وكبارا ...بالروح ..بالدم ..نفديك يا فلسطين . وكانت مواضيع الإنشاء دائما عن فلسطين , ونهاية الموضوع نكتب ..وإنا عائدون ..
كانت أيامنا ا لساذجة وأحلامنا البعيدة تلك ...ثم دفعنا ثمنها غاليا ..وألآن أضحك وأحزن وأتذكر في أي غفلة كنا نعيش ؟
كنا نحمل أحلاما كبيرة ..في ان نبني أوطانا جميلة حرة ...ثم نتوحد لنعود وطنا عربيا واحدا قويا يخشاه الأعداء المتربصون ...
وكانت الأغاني جميلة ..فيها رقة وخجل وحب شفاف , والمطربات محترمات ومحتشمات., لا يمثلن طبقة منحطة من المجتمع . وكان الكثير من المناسبات الوطنية والأغاني الوطنية التي يغنيها العرب من المحيط الى الخليج ...
وطني حبيبي وطني الأكبر ..
وكنانقرأ الكتب العربية والمترجمة..وكنت أحب كثيرا الكتاب الروس قبل الثورة الشيوعية , مثل تولستوي وغوركي وتشيخوف .. وأحب من كتاب الغرب همنغواي وتشالرز ديكنز ..ومسرحيات شكسبير.
ومن الكتب العربية نقرأ قصص توفيق الحكيم وطه حسين , وشعر الجواهري والسياب والبياتي , ومن الشعر القديم نقرأ المتنبي والمعري ...
وعندما بلغت العشرين كنت أحب سماع الأغاني الأجنبية , وأحفظها وأكتب كلماتها في دفتر صغير ..وتدهشني مشاعر الحب الرقيقة فيها والبريئة . وكنت أغني في الكلية أيام الحفلة السنوية , أغاني عربية لفيروز , أو اغاني أجنبية لبتولا كلارك ..كنت أحبها جدا ...ترى أين ذهبت ؟ هل ما زالت على قيد الحياة ؟
وعندما تخرجت وتزوجت ..قرأت جبران خليل جبران وأحببته جدا , واشتريت معظم كتبه وقرأتها وحفظتها ..ثم تعلقت بكتاب هكذا تكلم زرادشت...لنيتشه الألماني ..وأعجبتني رغبته في أن يكون الإنسان قويا يتحدى ضعفه وأخطاءه ...
وبعد أن دخلت الثلاثين , عدت لقراءة كتب العرب القديمة مثل الف ليلة وليلة . والجاحظ والأغاني للأصفهاني .فوجدتها لذيذة جدا وفيها رائحة قوية للشخصية العربية قبل الأسلام أو بعده ...فأحببتها ..ووجدت أن هويتي أقرب لهذه الكتابات .
ثم قرأت كتابات الغزالي وأحببته جدا ..وهو من الفلاسفة المتصوفين المسلمين ..واحتفظت بكتبه , حيث كنت أفضل شراءها من راتبي ..وأحرم نفسي من الملابس أو أدوات الزينة النسائية .
ولم أتوقف أبدا عن قراءة الكتب المترجمة. قرأت روايات كتاب أميركا الجنوبية ,
وكتاب من بريطانيا مثل جورج اورويل وأعجبتني جدا روايته 1948, وكأننا نعيشها في أوطاننا... ثم قرأت كثيرا ل(د.ج.لورنس) وأعجبتني طريقة تفكيره وكتاباته,ووليم غولدنغ,وجدته غامضا ورمزيا أكثر من اللازم .
وعندما سافرت من عمان الى بغداد ,في عام 1991, تبرعت لمكتبة عامة , بصناديق من كتبي التي قرأتها وخفت أن أدخلها العراق فتتم مصادرتها ...
وبدأت في بغداد بتكوين مكتبة جديدة..
وبدأت قراءة تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده ...وصرت اؤمن بنظرية إقرا الماضي حتى تفهم الحاضر !
وعندما بلغت الأربعين ..بدأت أقرأ كتب الدين ...وأنظر اليها بعمق ونضوج وتفهم وتسامح ...حتى لا يصبح الدين
مادة لبغض الآخرين والبعد عنهم ...بل هو شعور بالحب والتسامح تجاه الآخرين حتى من غير المسلمين .
كل التجارب اليومية تغدو تافهة..إن لم تتعمق بقراءة الكتب التي فيها تجارب الناس السابقين.. بدأت أقتنع بهذه الفكرة يوما بعد يوم ...
*****
في عام 1976 , تخرجت من الجامعة وتزوجت في الصيف نفسه, ثم تطوعت مع زوجي للذهاب الى لبنان
حيث الحرب الأهلية..كان قرارا في غاية السرية ..وكذبت على أهلي وقلت لهم انني سأسافر الى البصرة في جنوب العراق مع زوجي للعمل مع شركات هندسية.
وذهبنا الىبيروت ..كنت مؤمنة تماما بأنني ذاهبة لمساعدة الناس المنكوبين من خلال لجان إعادة الإعمار للمخيمات الفلسطينية...حيث أوصلنا لهم الماء والكهرباء وأنشأنا مخابز , وصلحنا البيوت بما أمكن لتقيهم برد الشتاء وحر الصيف , بعمل اطارات للشبابيك وأغطية من النايلون بدلا من الزجاج , وأغلقنا بعض الشبابيك بالطابوق , كحل آخر...
وكنت كل يوم أفكر بالموت ..وأنا عروس صغيرة ساذجة لم أر بعد شيئا من مباهج الحياة..تركت ملابس العرس والهدايا التي أحضرها أهل زوجي , أمانة عند أخواتي ..قلت لهم هي لكم إن مت أنا ...دعوها عندكم للذكرى.
وأوصيتهم ألأ يخبروا أمي وأبي ...لأنني أخجل من أكون مصد ر ألم لهم ....
كنت مقتنعة تماما أن هذا عمل نبيل ويستحق أن أموت من أجله....
بعد سنتين من الحياة هناك ...اكتشفت أن ثمة خطأ. فالتنظيمات السياسية العاملة هناك لم تكن بدرجة النقاء الذي كنت أظنه...كانت لا تخلو من أنانية وحب للمصالح الخاصة ..حيث تعطيها أولوية ..وتسبب في نزاعات تافهة
تسبب التفرقة لا التوحيد..وأدركت انها تنظيمات جاهلة لا تملك رؤيا واضحة ولا تتحمل مسؤولية الرسالة التي عليها حملها .
وأصبت بخيبة أمل ,,وأكتشفت أن ثمة هوة تفصل الحلم عن الواقع ..وأن الحلم بعيد ...بعيد جدا .
كانت حربا مجنونة , اختلطت الأوراق , ولا تعرف من يقاتل من ؟
الأحزاب اللبنانية المسيحية ضد التنظيمات الفلسطينبة.والأحزاب الوطنية الأخرى اللبنانية والقوات السورية مشتركة كأطراف أخرى...وثمة مراقب من الخارج يدير دفة النزاع ..ولا أحد يدري الى أين ؟
*****
عندما انتهى العمل الهندسي , اقترحوا أن أعمل مع التنظيمات النسائية لتنظيم ما ...لكنني اعتذرت, وارتبطت بالعمل مع مكتب هندسي لبناني لعمل تصاميم مستشفيات للهلال الأحمر , وتصميم مباني جامعة في اليمن .,
بالإشتراك مع مجموعة من المهندسين ...
كان العمل ممتعا والدوام مرهق وطويل والبلاد بحالة أمنية سيئة...وبعد حوالي سنتين تناقشت مع عزام حول جدوى بقائنا ...وكنت حاملا برائد..وحالتي النفسية متعبة من الحرب والشعور بالغربة والوحدة...فقررنا الخروج من بيروت والإستقرار في عمان حيث يسكن أهله .
جئت الى بغداد ..وولدت رائد عند أهلي ..وعدت الى عمان لأبدأ مشوارا جديدا...
المخابرات الأردنية ضايقتنا كثيرا ...وظلت تحقق وتضغط علينا أن نعترف بانتمائنا الى حزب البعث ...
لكننا تمسكنا بموقفنا ..وكنا حقا أبرياء من هذه التهمة...ثم بدأ التحقيق إن كنا من تنظيمات فلسطينية ...لم يكن اسمها ارهابية ... كان اسمها فدائية !
وبدأت رحلة العذاب هناك ...منعونا من السفر الى خارج البلاد...ومنعونا من العمل داخل مؤسسات الدولة..ولم أكن أفهم ما جريمتنا .
ذهبنا متطوعين لمساعدة أهالي مخيمات منكوبين , فما الذي أغضب هؤلاء , وجعلونا متهمين ..ومنعونا من حقوقنا مثل الآخرين ؟
كل الإذاعات العربية تبكي على فلسطين ..ونحن ذهبنا لنساعد...فأين الخطأ؟
هذه كانت الصدمة الثانية في حياتي بعد صدمة بيروت والفوضى هناك ...
وبدأت أنظر للأمور بطريقة أخرى ...ثمة هوة بين الإعلام ..وواقع الحال في الوطن العربي..ثمة كلام جميل ...وأفعال قبيحة.ثمة كذب لا حدود له ...
ولماذا يكذبون؟ كان هذا السؤال يعذبني طويلا ولا أقدر أن أسأل أحدا ...من يملك الجواب ؟
غرقت في العمل وهموم الأسرة الجديدة في عمان ..واشتغلنا في القطاع الخاص فقط .لأن قطاع الدولة مغلق أمام وجوهنا...واكتشفت بعد سنوات من وجودي في عمان ,
ان كل الشباب والشابات العائدين من الخارج , يعاملون هكذا...ويعاد برمجة حياتهم وأحلامهم وأفكارهم بطريقة أخرى...
ثم غادرنا عمان الى السعودية...حيث العمل والغربة..عزام كان منهمكا بالعمل وأنا أقضي الوقت مع الأطفال, وأحيانا عمل هندسي في البيت وأحيانا قراءة كتب ...
وفي الصيف كنا نسافر الى أوروبا...فأخلع العباءة وألبس البنطلون ..كنت أحس أن ثمة فصام في الشخصية سيصيبني...
وكنت أدهش بجمال أوروبا ونظافتها ولطافة الناس ..وأحسدهم على حريتهم وهدوء بالهم .. والحضارة التي ينعمون بها..
ومرة كنا في جنيف ..وكنت أدفع عربة الأطفال فيها خالد وهو صغير..فاقترب مني عزام وابتسم ..وسألني هامسا: لو صارت فرصة لنا ..هل تأتين للعيش هنا ؟
رددت فورا ودون تفكير...لا . وقطبت جبيني...
ولماذا؟ سأل عزام ...أليست بلادا جميلة ونظيفة؟ اليست أفضل من الدول العربية؟
لا أعرف ..قلت, وبقيت حائرة قليلا ...نعم هي بلاد جميلة ..لكني لا أحس بأي علاقة
بيني وبينها ..لا شيء مشترك ...كيف سأعيش هنا؟ سيقتلني الشعور بالغربة.
******
في عام 1982 دخلت اسرائيل الى بيروت , وكانت مذابح في المخيمات , ولم تتحرك الدول العربية لفعل شيء , سوى تصريحات واجتماعات وكلام ...وكان حصار هناك وتصفية استمرت أسابيع أو شهور ما عدت أذكر تماما , لكن المخيمات سقطت والمقاومة الفلسطينية خرجت من لبنان الى منفى آخر ,,الى تونس ...هناك بعيدا الى غرب افريقيا ...
كان ثمة احباط عام في الشارع العربي مما حدث ...
وفي العراق حرب طاحنة مع ايران ...كان صدام في أوج قوته ..وكان يفني العراقيين بحرب طاحنة مع جارة مسلمة..ايران . والسبب ثورة ايرانية وحكم جديد يخشاه الجميع ...من القريبين والبعيدين , فتحالفوا ضده..
وهنا كانت أميركا واضحة في الصورة . ساندت صدام وربما دفعته لشن هذه الحرب
ومولته بالمال والسلاح من أجل انهاك ايران والعراق ,,,تلك الحرب الخاسرة للطرفين .
كنت أعيش في عمان وقلبي يمتليء بالألم لما يحدث للعراق ...وفلسطين . والحكومات العربية عاجزة عن فعل شيء له قيمة...وكان شعورا بالخيبة يكبر في الشارع العربي ...وشعور بالغضب مما يجري .
انتهت الحرب العراقية الإيرانية , لتشتعل المنطقة من جديد في الإنتفاضة في فلسطين ...ومصادمات وعنف لا نهاية له ...والشارع العربي يتساءل عما يحدث ..وتشمئز نفسه من صمت الحكومات وسلبيتها...وكان ثمة سخط يكبر ضد أميركا ..لأن بإمكانها المساعدة وتهدئة الأمور ولكنها لا تفعل وتتحيز لطرف ضد آخر...وتضغط على الحكومات العربية من أجل مزيد من الصمت والسلبية, وهذه الحكومات تضغط بدورها على الشعوب...وتحطم ما تبقى من أحلام جميلة ..لتحرير فلسطين . أو وحدة عربية قوية .
ثم جاءت حرب الكويت, لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير...
فانقسمت الأمة بين مؤيد ومعارض ...ومن سلبية الحكومات العربية وضعفها , تدخلت أميركا لتشن حربا ضد العراق لتحرير الكويت .
كانت الضغوط واضحة من الإدارة الأمريكية على العرب , لعدم حل المشكلة عربيا بين الحكومات ..دون تدخل أجنبي ..
وقامت الحرب وتصدع آخر جدار كان في بيت يضم العرب جميعا ...وأصبحوا فرقا وأعداء...
وفلسطين ضاعت وغمرها النسيان ..والإنتفاضة توقفت ودخلت مسارات معقدة ..مفاوضات لا نتيجة لها , ثم تنظيمات عجيبة تحلل التفجيرات والقتل كأسلوب جديد لحل المشاكل...وأتساءل دائما من أسسها ومولها ؟ فهي تدمر نضال الفلسطينيين وتشوهه بدلا من كسب العالم لصالح قضيتهم .
والهوة تكبر وتزداد بين شعوب هذه المنطقة , وشعوب دول الغرب .
كل ما حدث من فوضى ودمار , لا أحد يبريء أميركا من المشاركة فيه ..
والآن حرب العراق ...الصفحة الأخيرة..
ماذا نحمل في ذاكرتنا المثقلة ؟
حرب 1948 , حيث هوجم الفلسطينيين في بلادهم وقتلوا , وهاجر الأكثرية الى أوطان بعيدة وقريبة...
حرب 1967 حيث خسرت جيوش الدول العربية حربها ضد اسرائيل , لماذا؟
مع ان اسرائيل دولة صغيرة محدودة السكان والإمكانيات ؟
وبمرور الوقت اكتشفنا ان العرب لا يحاربون هذه الدولة الصغيرة ...إنما خصمهم أكبر من هذا بكثير...من يمول هذه الدولة ويساندها في عدوانها ؟ اليست أميركا ؟
وحرب فاشلة أخرى عام 1973, ثم بداية مرحلة البرمجة...وفتح باب المفاوضات بدل الحروب ...
والشعوب تزداد إحباطا وخيبة ...وتاريخ يطول , كله فشل وحروب خاسرة.
لماذا خسرت الحروب ؟ مع إن الشعوب مؤمنة بعدالة الموضوع الذي تحارب من أجله ؟
ربما لأن الحكومات كانت تدرك أنها أمام خصم جبار لا تقدر على مواجهته,وتخجل من مواجهة شعوبها بهذه الحقيقة, فظلت تراوغ وتكذب وتدعي ...وتجر شعوبها الى خيبات وإحباطات لا نهاية لها.
وهاجرت معظم العقول العربية الذكية , الى دول العالم , الى أميركا وكندا واوروبا واستراليا...وأفرغت المنطقة من كفاءات ,ممكن أن تغير الحياة الى وضع أفضل.
وغرقنا في الجهل والتخلف , حتى الدين ...اختفى وجهه الجميل الذي يحث على الصدق , والشجاعة من أجل التغيير , وأظهر وجهه الذي يحث على الصمت والطاعة, وظلم النساء , والزواج من أربعة...
حتى رسم لنا العالم , صورة غبية جاهلة...لا تفارق ذاكرته.
****
ثم بدأت مرحلة إعادة برمجة المنطقة , حوارات ومفاوضات وأحاديث عن سلام مع اسرائيل ..وهذه تزداد قوة ونحن نزداد ضعفا...والكفة لا تتوازن أبدا...
ثم دخلت أميركا العراق...بعد سقوط صدام .
وها نحن أمامها ... وهي أمامنا , وجها لوجه .
كيف نقتنع انها بريئة من الكوارث التي حلت بنا؟
كيف أمسح الملفات السيئة من الذاكرة المليئة؟
ليتني أقدر....
****
أما جيل الشباب ...ملفات الذاكرة نظيفة وجديدة.. سوى ما سمعوه من آبائهم وأمهاتهم ,والذي يسمع عن الماضي , لا يكون رد فعله كالذي يرى الأحداث بعينه .
فهم بكل بساطة , سيتقبلون فكرة, ان أميركا هي الأم الحنون التي جاءت لنجدتنا...
أما الذين من عمري أو أكثر ...فيبتسمون بمرارة, وكأنهم يقولون : من أين نبدأ لنشرح ؟
****
والآن ...أفكر, ويخطر في بالي سؤال صغير ..
الأمريكي الذي عاش تلك المراحل , وعمره يقرب عمري...
كيف قضى سنواته تلك ؟ هل أصابه ثمة إحباط ؟ هل رأى أحلامه تتحطم ؟
هل رأى شعبه يغرق في الجهل والغباء؟
ويقرأ تاريخ شعبه ليجده منيرا زاهيا جميلا...كان من اول الشعوب التى صنعت الحضارة في التاريخ الإنساني... فما الذي غير كل شيء ؟
ولو كنت أنا مواطنة أمريكية..وقرأت هذه المقالة..هل كنت سأبعث ردا غاضبا عليه
أو أنتقده أو أستهزأ به ....هل كنت حقا سأفعل هذا ؟
لا أدري...كل شيء ممكن, حين نتبادل الأماكن...
****
بغداد هذه الأيام تكاد تستقبل شهر الربيع...حيث المشاتل والحدائق مليئة بالورود الموسمية الجميلة, من مختلف الأنواع والأشكال...
وثمة فراشات بيضاء تغدو وتعود أزواجا في حديقة بيتنا , وكأنهن سعيدات مبتهجات ..يقمن بإستعراض ما لإستقبال هذا الفصل.
الربيع فصل قصير في العراق ..وشهور الصيف هي الأكثر طولا خلال السنة ., وفي عمان شهور الشتاء هي الأطول ..والصيف قصير .
وتذكرت انني مررت على أحد المشاتل قبل الحرب الأخيرة بيوم واحد , واشتريت عدة شتلات جميلة للحديقة المنزلية, وكان الوقت نهاية أذار تقريبا ..وضحك الأولاد , وفضحوني , وقالوا لكل أصدقاءهم ان ماما تعيش في عالم آخر لا علاقة له بالحرب القادمة , لكني في الحقيقة كنت محطمة من الداخل , من الخوف مما سيحدث ,,وربما كنت أخدعهم وأخدع نفسي بتلك الورود...
****
عند عودتي اليوم من العمل الى البيت ,شاهدت مجموعة آليات أمريكية تقف على طرف شارع المطار, ثمة عطل ميكانيكي في احداهن ,توقفوا لإصلاحه , ووقف جنود من المجموعة ,يشهرون أسلحتهم باتجاه مرور السيارات المدنية خوفا من هجوم مباغت...ونحن نمر بسرعة خوفا من طلقة قاتلة تأتينا من اتجاههم, وحين تجاوزت ,ابتسمت وفكرت ..من يخاف من الآخر؟
تذكرت رسالة وصلتني قبل فترة من أم أمريكية قلقة على ابنها الذي جاء للعراق جنديا مع الجيش الأمريكي ...وأحسست مدى لوعة قلبها وحزنها,لأن أخباره منقطعة ..وهي تخشى أن يموت من طلقة عراقي معارض للأمريكان, أرسلت لها جوابا تمنيت أن يعود ابنها بالسلامة الى أرض الوطن , وتمنيت لو أعرف أحدا هنا لأسأل عنه وأطمئن أمه ..فأنا أم ..وأحس معها..والمشاعر واحدة.
****
لماذا تختلف وجهات النظر للعراقيين , تجاه الوجود الأمريكي , خصوصا الذين يكتبون مقالات على الانترنت ؟
أنا أظن أن العمر والتجربة الشخصية في الحياة , هما من أهم الأسباب للإختلاف .
فالجيل الذي في العشرينات أو الثلاثينات الآن من عمره , لم يجد فرصة حقيقية للحياة ورؤية النور الا بعد سقوط صدام ...حيث ولد هذا الجيل في أوقات كلها حروب وأزمات وعدوانية ..وكان العراق عبارة عن سجن كبير , ومستقبل غامض يحيط بالشباب ويحبطهم ويحطم أحلامهم في حياة حرة كريمة . توجد أقلية تمكنت من السفر الى خارج العراق بطريقة ما , وحرموا من مواصلة علاقاتهم العائلية , ليعيشوا في المنافي البعيدة , خلاصا من احتمالات سيئة لاتنتهي . ستصيبهم لو ظلوا في العراق .
والآن الشباب هنا سعداء وأحرار..و كأن الحياة عندهم صارت إما ... أو , إما صدام ... أو الأمريكان , وطبعا سيختارون الإحتمال الثاني .
لأنهم ذاقوا المر من الإحتمال الأول . ولم يعاصروا في حياتهم أي احتمال ثالث ...
أو حتى يحلموا به...
أما الجيل الأقدم , والذي في الأربعين من عمره أو اكثر...فلهم رؤيا أخرى مختلفة .
هذا الجيل , وأنا منه , عاش فترات سعيدة من حياته ...ثم رأى جحيم الفترة التي حكم بها صدام , لكنه لا يرى في الوجود الأمريكي هو الحل الأمثل .
****
الذين عاصروا الإستعمار البريطاني أظنهم انقرضوا من الوجود ,لكن الذين عاصروا الحكم الملكي والذي بعده ,
حتى أيام صدام عندهم تجارب كثيرة وأفكار تختلف تماما عن الجيل الجديد ...
وأنا سأتكلم عن تجربتي الخاصة كمثال لجيل عاش فترة الستينات طفلا , والسبعينات شابا ثم تمر المراحل تباعا.
كان العالم أكثر أمانا وهدوءا مما هو الآن ....
عشنا طفولة هادئة في ا لستينات , رغم وجود ثورات ونزاعات داخلية على السلطة , مرة كان الحكم يميل للإتحاد السوفيتي في عهد عبد الكريم قاسم , ثم جاء حكم عبد السلام عارف وكان قوميا , ثم شن عليه البعثيون حربا لأنه أبعدهم عن الحكم ...ثم قتل بحادث سقوط طائرة , لا يخلو من الشكوك حول البعثيين ودورهم في الموضوع , .ثم جاء أخوه لفترة قصيرة ,ففاجأه البعثيون بإنقلاب وأخذوا الحكم لهم ....كان النزاع عراقيا- عراقيا فلم تكن ثمة كوارث عظيمة ...سرعان ما يعود الأمان للبلاد , وتستبدل صور الرئيس السابق على الجدران في الشوارع والمدارس ومؤسسات الدولة , والأمر روتيني يتقبله الجميع كأمر واقع .
وكان ثمة قضايا مشتركة بين الدول العربية., من الشرق للغرب ومن الشمال الى الجنوب , كنا نادرا ما نرى عربيا من وطن آخر , جاء ليعيش أو يعمل في وطن عربي آخر ...كان ثمة استقرار واكتفاء لكل بلد ..
وكانت القضية المركزية التي يتفق عليها العرب وتستعملها ا لحكومات ورقة تودد لشعوبها وورقة شهادة للوطنية الصادقة , هي فلسطين . والكل يبذل ما بوسعه من أجل المساعدة في تقديم حلول لمساعدة ذلك الشعب العربي المظلوم ..المعتدى عليه . والمشرد من أرضه .
وكنا نردد صغارا وكبارا ...بالروح ..بالدم ..نفديك يا فلسطين . وكانت مواضيع الإنشاء دائما عن فلسطين , ونهاية الموضوع نكتب ..وإنا عائدون ..
كانت أيامنا ا لساذجة وأحلامنا البعيدة تلك ...ثم دفعنا ثمنها غاليا ..وألآن أضحك وأحزن وأتذكر في أي غفلة كنا نعيش ؟
كنا نحمل أحلاما كبيرة ..في ان نبني أوطانا جميلة حرة ...ثم نتوحد لنعود وطنا عربيا واحدا قويا يخشاه الأعداء المتربصون ...
وكانت الأغاني جميلة ..فيها رقة وخجل وحب شفاف , والمطربات محترمات ومحتشمات., لا يمثلن طبقة منحطة من المجتمع . وكان الكثير من المناسبات الوطنية والأغاني الوطنية التي يغنيها العرب من المحيط الى الخليج ...
وطني حبيبي وطني الأكبر ..
وكنانقرأ الكتب العربية والمترجمة..وكنت أحب كثيرا الكتاب الروس قبل الثورة الشيوعية , مثل تولستوي وغوركي وتشيخوف .. وأحب من كتاب الغرب همنغواي وتشالرز ديكنز ..ومسرحيات شكسبير.
ومن الكتب العربية نقرأ قصص توفيق الحكيم وطه حسين , وشعر الجواهري والسياب والبياتي , ومن الشعر القديم نقرأ المتنبي والمعري ...
وعندما بلغت العشرين كنت أحب سماع الأغاني الأجنبية , وأحفظها وأكتب كلماتها في دفتر صغير ..وتدهشني مشاعر الحب الرقيقة فيها والبريئة . وكنت أغني في الكلية أيام الحفلة السنوية , أغاني عربية لفيروز , أو اغاني أجنبية لبتولا كلارك ..كنت أحبها جدا ...ترى أين ذهبت ؟ هل ما زالت على قيد الحياة ؟
وعندما تخرجت وتزوجت ..قرأت جبران خليل جبران وأحببته جدا , واشتريت معظم كتبه وقرأتها وحفظتها ..ثم تعلقت بكتاب هكذا تكلم زرادشت...لنيتشه الألماني ..وأعجبتني رغبته في أن يكون الإنسان قويا يتحدى ضعفه وأخطاءه ...
وبعد أن دخلت الثلاثين , عدت لقراءة كتب العرب القديمة مثل الف ليلة وليلة . والجاحظ والأغاني للأصفهاني .فوجدتها لذيذة جدا وفيها رائحة قوية للشخصية العربية قبل الأسلام أو بعده ...فأحببتها ..ووجدت أن هويتي أقرب لهذه الكتابات .
ثم قرأت كتابات الغزالي وأحببته جدا ..وهو من الفلاسفة المتصوفين المسلمين ..واحتفظت بكتبه , حيث كنت أفضل شراءها من راتبي ..وأحرم نفسي من الملابس أو أدوات الزينة النسائية .
ولم أتوقف أبدا عن قراءة الكتب المترجمة. قرأت روايات كتاب أميركا الجنوبية ,
وكتاب من بريطانيا مثل جورج اورويل وأعجبتني جدا روايته 1948, وكأننا نعيشها في أوطاننا... ثم قرأت كثيرا ل(د.ج.لورنس) وأعجبتني طريقة تفكيره وكتاباته,ووليم غولدنغ,وجدته غامضا ورمزيا أكثر من اللازم .
وعندما سافرت من عمان الى بغداد ,في عام 1991, تبرعت لمكتبة عامة , بصناديق من كتبي التي قرأتها وخفت أن أدخلها العراق فتتم مصادرتها ...
وبدأت في بغداد بتكوين مكتبة جديدة..
وبدأت قراءة تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده ...وصرت اؤمن بنظرية إقرا الماضي حتى تفهم الحاضر !
وعندما بلغت الأربعين ..بدأت أقرأ كتب الدين ...وأنظر اليها بعمق ونضوج وتفهم وتسامح ...حتى لا يصبح الدين
مادة لبغض الآخرين والبعد عنهم ...بل هو شعور بالحب والتسامح تجاه الآخرين حتى من غير المسلمين .
كل التجارب اليومية تغدو تافهة..إن لم تتعمق بقراءة الكتب التي فيها تجارب الناس السابقين.. بدأت أقتنع بهذه الفكرة يوما بعد يوم ...
*****
في عام 1976 , تخرجت من الجامعة وتزوجت في الصيف نفسه, ثم تطوعت مع زوجي للذهاب الى لبنان
حيث الحرب الأهلية..كان قرارا في غاية السرية ..وكذبت على أهلي وقلت لهم انني سأسافر الى البصرة في جنوب العراق مع زوجي للعمل مع شركات هندسية.
وذهبنا الىبيروت ..كنت مؤمنة تماما بأنني ذاهبة لمساعدة الناس المنكوبين من خلال لجان إعادة الإعمار للمخيمات الفلسطينية...حيث أوصلنا لهم الماء والكهرباء وأنشأنا مخابز , وصلحنا البيوت بما أمكن لتقيهم برد الشتاء وحر الصيف , بعمل اطارات للشبابيك وأغطية من النايلون بدلا من الزجاج , وأغلقنا بعض الشبابيك بالطابوق , كحل آخر...
وكنت كل يوم أفكر بالموت ..وأنا عروس صغيرة ساذجة لم أر بعد شيئا من مباهج الحياة..تركت ملابس العرس والهدايا التي أحضرها أهل زوجي , أمانة عند أخواتي ..قلت لهم هي لكم إن مت أنا ...دعوها عندكم للذكرى.
وأوصيتهم ألأ يخبروا أمي وأبي ...لأنني أخجل من أكون مصد ر ألم لهم ....
كنت مقتنعة تماما أن هذا عمل نبيل ويستحق أن أموت من أجله....
بعد سنتين من الحياة هناك ...اكتشفت أن ثمة خطأ. فالتنظيمات السياسية العاملة هناك لم تكن بدرجة النقاء الذي كنت أظنه...كانت لا تخلو من أنانية وحب للمصالح الخاصة ..حيث تعطيها أولوية ..وتسبب في نزاعات تافهة
تسبب التفرقة لا التوحيد..وأدركت انها تنظيمات جاهلة لا تملك رؤيا واضحة ولا تتحمل مسؤولية الرسالة التي عليها حملها .
وأصبت بخيبة أمل ,,وأكتشفت أن ثمة هوة تفصل الحلم عن الواقع ..وأن الحلم بعيد ...بعيد جدا .
كانت حربا مجنونة , اختلطت الأوراق , ولا تعرف من يقاتل من ؟
الأحزاب اللبنانية المسيحية ضد التنظيمات الفلسطينبة.والأحزاب الوطنية الأخرى اللبنانية والقوات السورية مشتركة كأطراف أخرى...وثمة مراقب من الخارج يدير دفة النزاع ..ولا أحد يدري الى أين ؟
*****
عندما انتهى العمل الهندسي , اقترحوا أن أعمل مع التنظيمات النسائية لتنظيم ما ...لكنني اعتذرت, وارتبطت بالعمل مع مكتب هندسي لبناني لعمل تصاميم مستشفيات للهلال الأحمر , وتصميم مباني جامعة في اليمن .,
بالإشتراك مع مجموعة من المهندسين ...
كان العمل ممتعا والدوام مرهق وطويل والبلاد بحالة أمنية سيئة...وبعد حوالي سنتين تناقشت مع عزام حول جدوى بقائنا ...وكنت حاملا برائد..وحالتي النفسية متعبة من الحرب والشعور بالغربة والوحدة...فقررنا الخروج من بيروت والإستقرار في عمان حيث يسكن أهله .
جئت الى بغداد ..وولدت رائد عند أهلي ..وعدت الى عمان لأبدأ مشوارا جديدا...
المخابرات الأردنية ضايقتنا كثيرا ...وظلت تحقق وتضغط علينا أن نعترف بانتمائنا الى حزب البعث ...
لكننا تمسكنا بموقفنا ..وكنا حقا أبرياء من هذه التهمة...ثم بدأ التحقيق إن كنا من تنظيمات فلسطينية ...لم يكن اسمها ارهابية ... كان اسمها فدائية !
وبدأت رحلة العذاب هناك ...منعونا من السفر الى خارج البلاد...ومنعونا من العمل داخل مؤسسات الدولة..ولم أكن أفهم ما جريمتنا .
ذهبنا متطوعين لمساعدة أهالي مخيمات منكوبين , فما الذي أغضب هؤلاء , وجعلونا متهمين ..ومنعونا من حقوقنا مثل الآخرين ؟
كل الإذاعات العربية تبكي على فلسطين ..ونحن ذهبنا لنساعد...فأين الخطأ؟
هذه كانت الصدمة الثانية في حياتي بعد صدمة بيروت والفوضى هناك ...
وبدأت أنظر للأمور بطريقة أخرى ...ثمة هوة بين الإعلام ..وواقع الحال في الوطن العربي..ثمة كلام جميل ...وأفعال قبيحة.ثمة كذب لا حدود له ...
ولماذا يكذبون؟ كان هذا السؤال يعذبني طويلا ولا أقدر أن أسأل أحدا ...من يملك الجواب ؟
غرقت في العمل وهموم الأسرة الجديدة في عمان ..واشتغلنا في القطاع الخاص فقط .لأن قطاع الدولة مغلق أمام وجوهنا...واكتشفت بعد سنوات من وجودي في عمان ,
ان كل الشباب والشابات العائدين من الخارج , يعاملون هكذا...ويعاد برمجة حياتهم وأحلامهم وأفكارهم بطريقة أخرى...
ثم غادرنا عمان الى السعودية...حيث العمل والغربة..عزام كان منهمكا بالعمل وأنا أقضي الوقت مع الأطفال, وأحيانا عمل هندسي في البيت وأحيانا قراءة كتب ...
وفي الصيف كنا نسافر الى أوروبا...فأخلع العباءة وألبس البنطلون ..كنت أحس أن ثمة فصام في الشخصية سيصيبني...
وكنت أدهش بجمال أوروبا ونظافتها ولطافة الناس ..وأحسدهم على حريتهم وهدوء بالهم .. والحضارة التي ينعمون بها..
ومرة كنا في جنيف ..وكنت أدفع عربة الأطفال فيها خالد وهو صغير..فاقترب مني عزام وابتسم ..وسألني هامسا: لو صارت فرصة لنا ..هل تأتين للعيش هنا ؟
رددت فورا ودون تفكير...لا . وقطبت جبيني...
ولماذا؟ سأل عزام ...أليست بلادا جميلة ونظيفة؟ اليست أفضل من الدول العربية؟
لا أعرف ..قلت, وبقيت حائرة قليلا ...نعم هي بلاد جميلة ..لكني لا أحس بأي علاقة
بيني وبينها ..لا شيء مشترك ...كيف سأعيش هنا؟ سيقتلني الشعور بالغربة.
******
في عام 1982 دخلت اسرائيل الى بيروت , وكانت مذابح في المخيمات , ولم تتحرك الدول العربية لفعل شيء , سوى تصريحات واجتماعات وكلام ...وكان حصار هناك وتصفية استمرت أسابيع أو شهور ما عدت أذكر تماما , لكن المخيمات سقطت والمقاومة الفلسطينية خرجت من لبنان الى منفى آخر ,,الى تونس ...هناك بعيدا الى غرب افريقيا ...
كان ثمة احباط عام في الشارع العربي مما حدث ...
وفي العراق حرب طاحنة مع ايران ...كان صدام في أوج قوته ..وكان يفني العراقيين بحرب طاحنة مع جارة مسلمة..ايران . والسبب ثورة ايرانية وحكم جديد يخشاه الجميع ...من القريبين والبعيدين , فتحالفوا ضده..
وهنا كانت أميركا واضحة في الصورة . ساندت صدام وربما دفعته لشن هذه الحرب
ومولته بالمال والسلاح من أجل انهاك ايران والعراق ,,,تلك الحرب الخاسرة للطرفين .
كنت أعيش في عمان وقلبي يمتليء بالألم لما يحدث للعراق ...وفلسطين . والحكومات العربية عاجزة عن فعل شيء له قيمة...وكان شعورا بالخيبة يكبر في الشارع العربي ...وشعور بالغضب مما يجري .
انتهت الحرب العراقية الإيرانية , لتشتعل المنطقة من جديد في الإنتفاضة في فلسطين ...ومصادمات وعنف لا نهاية له ...والشارع العربي يتساءل عما يحدث ..وتشمئز نفسه من صمت الحكومات وسلبيتها...وكان ثمة سخط يكبر ضد أميركا ..لأن بإمكانها المساعدة وتهدئة الأمور ولكنها لا تفعل وتتحيز لطرف ضد آخر...وتضغط على الحكومات العربية من أجل مزيد من الصمت والسلبية, وهذه الحكومات تضغط بدورها على الشعوب...وتحطم ما تبقى من أحلام جميلة ..لتحرير فلسطين . أو وحدة عربية قوية .
ثم جاءت حرب الكويت, لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير...
فانقسمت الأمة بين مؤيد ومعارض ...ومن سلبية الحكومات العربية وضعفها , تدخلت أميركا لتشن حربا ضد العراق لتحرير الكويت .
كانت الضغوط واضحة من الإدارة الأمريكية على العرب , لعدم حل المشكلة عربيا بين الحكومات ..دون تدخل أجنبي ..
وقامت الحرب وتصدع آخر جدار كان في بيت يضم العرب جميعا ...وأصبحوا فرقا وأعداء...
وفلسطين ضاعت وغمرها النسيان ..والإنتفاضة توقفت ودخلت مسارات معقدة ..مفاوضات لا نتيجة لها , ثم تنظيمات عجيبة تحلل التفجيرات والقتل كأسلوب جديد لحل المشاكل...وأتساءل دائما من أسسها ومولها ؟ فهي تدمر نضال الفلسطينيين وتشوهه بدلا من كسب العالم لصالح قضيتهم .
والهوة تكبر وتزداد بين شعوب هذه المنطقة , وشعوب دول الغرب .
كل ما حدث من فوضى ودمار , لا أحد يبريء أميركا من المشاركة فيه ..
والآن حرب العراق ...الصفحة الأخيرة..
ماذا نحمل في ذاكرتنا المثقلة ؟
حرب 1948 , حيث هوجم الفلسطينيين في بلادهم وقتلوا , وهاجر الأكثرية الى أوطان بعيدة وقريبة...
حرب 1967 حيث خسرت جيوش الدول العربية حربها ضد اسرائيل , لماذا؟
مع ان اسرائيل دولة صغيرة محدودة السكان والإمكانيات ؟
وبمرور الوقت اكتشفنا ان العرب لا يحاربون هذه الدولة الصغيرة ...إنما خصمهم أكبر من هذا بكثير...من يمول هذه الدولة ويساندها في عدوانها ؟ اليست أميركا ؟
وحرب فاشلة أخرى عام 1973, ثم بداية مرحلة البرمجة...وفتح باب المفاوضات بدل الحروب ...
والشعوب تزداد إحباطا وخيبة ...وتاريخ يطول , كله فشل وحروب خاسرة.
لماذا خسرت الحروب ؟ مع إن الشعوب مؤمنة بعدالة الموضوع الذي تحارب من أجله ؟
ربما لأن الحكومات كانت تدرك أنها أمام خصم جبار لا تقدر على مواجهته,وتخجل من مواجهة شعوبها بهذه الحقيقة, فظلت تراوغ وتكذب وتدعي ...وتجر شعوبها الى خيبات وإحباطات لا نهاية لها.
وهاجرت معظم العقول العربية الذكية , الى دول العالم , الى أميركا وكندا واوروبا واستراليا...وأفرغت المنطقة من كفاءات ,ممكن أن تغير الحياة الى وضع أفضل.
وغرقنا في الجهل والتخلف , حتى الدين ...اختفى وجهه الجميل الذي يحث على الصدق , والشجاعة من أجل التغيير , وأظهر وجهه الذي يحث على الصمت والطاعة, وظلم النساء , والزواج من أربعة...
حتى رسم لنا العالم , صورة غبية جاهلة...لا تفارق ذاكرته.
****
ثم بدأت مرحلة إعادة برمجة المنطقة , حوارات ومفاوضات وأحاديث عن سلام مع اسرائيل ..وهذه تزداد قوة ونحن نزداد ضعفا...والكفة لا تتوازن أبدا...
ثم دخلت أميركا العراق...بعد سقوط صدام .
وها نحن أمامها ... وهي أمامنا , وجها لوجه .
كيف نقتنع انها بريئة من الكوارث التي حلت بنا؟
كيف أمسح الملفات السيئة من الذاكرة المليئة؟
ليتني أقدر....
****
أما جيل الشباب ...ملفات الذاكرة نظيفة وجديدة.. سوى ما سمعوه من آبائهم وأمهاتهم ,والذي يسمع عن الماضي , لا يكون رد فعله كالذي يرى الأحداث بعينه .
فهم بكل بساطة , سيتقبلون فكرة, ان أميركا هي الأم الحنون التي جاءت لنجدتنا...
أما الذين من عمري أو أكثر ...فيبتسمون بمرارة, وكأنهم يقولون : من أين نبدأ لنشرح ؟
****
والآن ...أفكر, ويخطر في بالي سؤال صغير ..
الأمريكي الذي عاش تلك المراحل , وعمره يقرب عمري...
كيف قضى سنواته تلك ؟ هل أصابه ثمة إحباط ؟ هل رأى أحلامه تتحطم ؟
هل رأى شعبه يغرق في الجهل والغباء؟
ويقرأ تاريخ شعبه ليجده منيرا زاهيا جميلا...كان من اول الشعوب التى صنعت الحضارة في التاريخ الإنساني... فما الذي غير كل شيء ؟
ولو كنت أنا مواطنة أمريكية..وقرأت هذه المقالة..هل كنت سأبعث ردا غاضبا عليه
أو أنتقده أو أستهزأ به ....هل كنت حقا سأفعل هذا ؟
لا أدري...كل شيء ممكن, حين نتبادل الأماكن...
****