Sunday, February 15, 2004

 
السبت 14/2
أخيرا...عدت الى بغداد ..
الساعة الآن الرابعة بعد الظهر ...انقطعت الكهرباء..فأدرنا المولدة. إفتقدت هذه الحالة في عمان !
انا الآن أشعر بالراحة التامة..عدت الى قاموس حياتي اليومية السابقة..عمل وأولاد ومولدة وهموم الحياة اليومية.
الأولاد استقبلوني بالصراخ والعتاب لماذا أطلت البقاء في عمان ؟ كنا مثل الأيتام من دونك ..
والموظفون في المحل عزفوا ذات الموسيقى ...لكنني في الحالتين ضحكت وكان جوابي ...خلعت الفيشة من الكهرباء ...وقررت أن أنساكم لبعض الوقت ! يا الهي كم جميلة هذه اللعبة ! أن تطفيء كل المواقع وتجلس لوحدك في هدوء جميل ...وتنسى كل ما يربطك بهموم الحياة اليومية المملة..
أظن ان الرجال يتمتعون بهذه الصفة معظم أيام السنة ...اللامبالاة تجاه منغصات البيت والأولاد والزوجات حتى يتمتعوا بإبتساماتهم طوال الوقت ...إلا فئة قليلة منهم ..يحملون هموم أولادهم وبيوتهم معهم أينما كانوا..أقدم لهم من هنا التحية والإحترام !
أما الأمهات ...فكأنهن خلقن من أجل هذا ..وهو البند الرئيسي في حياتهن..فلهن التحية دائما وأبدا...
****
الطريق من عمان الى بغداد ...معظمه صحراوي...يعني تحيط به الصحراء من الجهتين...ولا يلفت نظرك شيء مهم سوى أعمدة الضغط العالي المحطمة ,ومنظرها محزن كأنها تنكس رؤوسها حزنا على ما يجري في العراق.
والحيرة التي نعيش فيها من الذي يقتل ويدمر ويعيث فسادا في البلاد ؟ كل الإحتمالات واردة , وما عدت تعرف الحق من الباطل..
نقطة الحدود الأردنية وصلناها في السادسة صباحا ...سلمنا الجوازات وبقينا ننتظر ...المرة الأولى التي أحس أن ثمة خطأ يحصل وفوضى ..يوجد في قاعة الإنتظار أكثر من خمسين شخصا ينتظرون ...بعضهم أردنيون , وقليل من الأجانب , وكثير من العراقيين. أما الموظفون فعددهم قليل وانجازهم بطيء وممل ...وبين فترة وأخرى يصيح الموظف بالسماعة ..ويهدد المنتظرين بأنه لن يسلم الجوازات إلا اذا ابتعدوا من الكاونتر أمامه ...فيبتعدون ....ثم ما يلبثوا أن يتجمعوا ..فيصرخ ثانية. أحسست أنها لعبة سخيفة ..إنه لا حق له بالتعامل مع الناس بهذه الطريقة المريضة ..حيث يستمتع بإذلالهم والصراخ عليهم..
خرجت الى الساحة أريد أن اتنفس هواء منعشا بعيدا من الإزدحام ورائحة السكائر وبكاء الأطفال ..وجدت سيارات كثيرة تقف مليئة بالركاب النائمين ..أطفالا ونساء , فحزنت عليهم . ووجدت موظفا يرتدي الزي الرسمي لموظفي الحدود..اقتربت منه وألقيت عليه تحية الصباح...رد بإبتسامة مهذبة,قلت له يوجد ثمة خطأ في القاعة..الناس كثيرون , والعمل بطيء ..إما تفصلوا معاملات العوائل والركاب العاديين عن معاملات سائقي الشاحنات وهم الأكثرية , أو تزيدوا عدد الموظفين العاملين هنا ..ساعة ونصف ننتظر والجوازات لم تظهر..وعملية التدقيق بطيئة جدا وكذلك الأختام .معك حق ,قال , وابتسم ثانية ,لكنني لا أعمل في هذا القسم
أنا في الجمارك , كيف أساعدك ؟ لا شيء ,قلت ,فقط بلغ المسؤولين عن العمل أن هذه الحالة غير مريحة..ورجاء تحسينها...هز رأسه, ونظر صوب الأرض ..عدت للقاعة , عندي شعور انه لن يفعل شيئا..لكني خففت عن نفسي قليلا بأن وجدت من يستمع !
جلست مرة أخرى..دارت عيوني تتفحص المكان ...الأرض متسخة بأعقاب السكائر وبقايا فناجين قهوة بلاستيكية سكب ما تبقى من القهوة على الأرض...الكراسي نسبة كبيرة منها محطمة...الجدران متسخة ووحدات التكييف عليها غبار ثقيل منذ شهور أو ربما سنوات...تساءلت في داخلي ..من المسؤول عن هذا الحال هل هو المواطن أم الدولة ؟ مكان نظيف يعني احترام للقادم أو المغادر...مكان مهمل يعني لا احترام ...
وتذكرت انني لما كنت أسافر أيام الحصار أرى الحدود العراقية قذرة ولا ألوم ...بلد محطم من الحدود الى الحدود
لكن هنا في الأردن ..ما العذر ؟لا أدري ولا أجد جوابا ...
*****
عندما دخلت القوات الأمريكية الى بغداد ..كنا نتناقش دائما عما سنفعله وكيف سنتصرف ؟
وكنت أقول دائما ولا زلت ...الإحتلال سيزول ..آجلا أم آجلا ,فقط أريد أن نتعلم منهم الأشياء الجميلة التي عندهم .
إحترام الإنسان في وطنه ..وقيمته عند حكومته ...وحقوقه كيف تحفظها له دولته ..وحقه في انتخاب من يراه مناسبا ...ثم التراجع عنه ان ثبت فشله ...وحسن التعامل مع التكنولوجيا بوجهها الحضاري ,واستغلال عقل الإنسان لما فيه الخير...هذه وجوه مشرقة عند الغربيين فلماذا لا نتعلم منهم ؟
وعندما وصلت الى أول نقطة استراحة عراقية, قبل ساعتين من الوصول الى بغداد, كانت الساحة مليئة بالأوساخ والأكياس والعلب الفارغة من الكرتون أو المعدن ..وثمة مطعم قريب ..وأناس كثيرون ..فتحت باب السيارة,وتأملت المنظر. كم من الوقت تراكمت هذه الأوساخ ؟منذ الحرب أم قبلها ؟
تذكرت نكتة عن سيدة أخذت ابنها الصغيرالى الطبيب , وبعد إنهاء الفحص , سألها عن عمره ,فقالت ست شهور..فقال الطبيب , مستحيل ..الوسخ الذي عليه عمره سنة على الأقل !
وهكذا نقاط الحدود البرية عندنا..
أحسست بخجل وأنا أتخيل معي وفدا من الخارج ,من أوروبا مثلا , ماذا كنت سأقول لهم ؟
نحن شعوب ذات ثقافة وقيم ؟ سيقولون وما هذه الأوساخ؟ كيف تعيش مع أهل الثقافة والذوق ؟
لا أدري ..لا جواب عندي ... وهؤلاء الأجانب الذين يدخلون بلادنا لأسباب شتى...ما هي الواجهة الجميلة التي نستقبلهم بها ؟
وكيف سيصدقون أننا بشر أذكياء وطموحين للافضل في حياتنا...مثلهم تماما ؟
****
أتذكر واحدة من قريباتي,عندما كنت طفلة كنا نحب زيارتها,وكان يدهشني نظافة بيتها وأناقته ,وهو مليء باللعب من صناعتها ..وكانت خريجة فنون جميلة..وكانت تخيط لنا ملابس المدرسة ..للأسف لم تكن لوالدي ميزانية آنذاك لنخيط ملابس أخرى ,سوى ملابس المدرسة,...وكنت أحب رؤيتها ورؤية بيتها وأطفالها النظيفين دائما ..
وكنت أحلم انني حين أكبر وأتزوح سأجعل بيتي نموذجا مثل بيتها..وأطفالي مثل أطفالها...ثم تزوجت وتركت العراق لسنوات طويلة...
وبعد سنوات من عودتي ..ذكرتني بها أمي وقالت إذهبي وزوريها إن حالها قد تغير ..أثناء الحرب الإيرانية ,الحكومة العراقية اطلعت قرارا بإنهاء خدمة كل من له أصول إيرانية من دوائر الدولة الحساسة ,وخصوصا التربية,وأحالتهم الى التقاعد برواتب رمزية لا تسد الرمق...وهي كانت مديرة مدرسة ,وزوجها كان موظفا في الدولة..ففقدا مناصبهما فجأة .
وبعد عذاب شديد من السؤال عن الحي البعيد الذي تسكن فيه ..وصلت اليها. ووجدتها في استقبالي ..كان لوجهها ذات الضحكة الطيبة ..وصوتها المنخفض المهذب ..لكن شيئا من قلبي تمزق وأنا أجول بنظري في أنحاء البيت .
الأثاث قديم رخيص ..والستائر كذلك , والفوضى تملأ البيت ..ولا شيء مرتب وجميل .. ثمة صور ملونة بطريقة قبيحة..ومعلقة بإهمال دونما إطار..هذه رسمها زوجي,قالت وابتسمت ..حدقت في الصور وانقبض قلبي من بشاعتها...لا أصدق ! هل سكان هذا البيت هم ذاتهم الذين أعرفهم وصورتهم جميلة في ذاكرتي ؟
سألتها كيف تعيشون ؟ قالت عندنا دكان ..اقتطعنا غرفة من البيت ..وعملناها دكانا يجلس به زوجي ..يعني يساعدنا على تكاليف الحياة..قادتني الى الدكان ..وكان عبارة عن غرفة كئيبة , فيها رفوف معدنية ,,عليها غبار أكثر من البضاعة ..والأغراض مكدسة بطريقة أبعد ما تكون عن الذوق ...
لماذا تذكرت تلك المرأة بعد مروري بالحدود ؟
ربما لأن الإهمال والفوضى التي رأيتها هناك..متشابهة في الحالتين ..وربما السبب يتكرر أيضا هنا وهناك ...الشعور بالإحباط والهزيمة.
نعم ..أظن هذا هو السبب المدمر لحياة البشر ..والذي يفقد حياتهم معناها وجمالها وطعمها المميز...
ونعم أخرى ...نحن شعوب محبطة..نحمل في داخلنا أحلاما كبيرة..لكنها تحطمت بطريقة ما ولم تر النور...
أحلام بالحرية والإستقلال والصدق في التعامل مع بعضنا ...
ترى من حطمها ...وأحال حياتنا الخاصة والعامة..الى دوامة من فوضى وتخبط وعدم وضوح للرؤيا ؟

هل حطمها الإستعمار العثماني لأربعة قرون متتالية ؟ أم الإستعمار البريطاني لنصف قرن من الزمان ؟
أم حكومات وطنية ...أبعد ما تكون عن إختيار شعوبها ورغبتهم ؟
ليتني أعرف....ليتني أعرف....
****
في الحدود العراقية ,لم يكن ثمة تشديد على الجوازات ..كان هنالك موظف يختم دونما عملية فلترة للزائر كالتي تقوم بها الحدود الأردنية ..لا أعرف كيف تفسر هذه الحالة ..إهمال ؟ أم تساهل زائد ينبيئ عن وجود لا حكومة تدير البلاد ؟
بعض الجنود الأمريكان يتواجدون بعيدا عن الأنظار...خيرا يفعلون ...فمنظرهم يكسر قلبي ويذكرني بفاجعة الإحتلال.
قبل سفرنا بساعات ,كنت أودع أختي وزوجها ’وكان عندهم ضيوف من بغداد...وفتح النقاش ذاته ..عن جدوى العيش في بغداد , أو الخروج منها, حتى إشعار آخر...
وكنت ممن يشجعون البقاء...رغم المخاطر..لأنني لو قررت أن أترك..وكذلك جيراني وأقاربي وأصدقائي ,فمن سيبقى في العراق ؟ ولمن سأتركه ؟ كان ثمة هجوم عنيف ضدي ..
قلت ,سأبقى ..إن قدر لي أن أعيش وأرى عراقا حرا ديمقراطيا نصنعه على قناعاتنا..فسأكون سعيدة جدا لأنني شاركت بطريقة ما . وإن مت ,بطريقة ما ,فسأكون سعيدة أيضا إنني مت هنا في وطني ...وتدفنوني هنا في تربة وطني...
ضحكوا وغضبوا مني ...نعم ..أعترف أنني ما زلت مخلوقة غبية عنيدة من عصر اليناصورات ..أحلم بالوطن والحق والعدالة والحرية....وأؤمن بهذا تماما كما أؤمن بالله..ووجوده وعدالته ..ونصره للحق ..وللساعين من أجله .
كيف أختار الحياة بعيدا وأظل مرتاحة البال؟ هذه معادلة صعبة..كما المعادلة ,أن أظل هنا وأحتمل وغيري...
نحتمل هذه الأيام القاسية...عسى أن نرى النور يأتي بعد الظلام ... سيراه الذين سيظلون على قيد الحياة ,بعد فوضى القتل والدمار التي تعصف بالعراق...
فضول وسؤال صغير يقلقني..هل سأكون واحدة من الذين سوف يسعدون برؤية العراق الذي نحلم به ؟
أم أنني سأكون وقتها من قائمة الضحايا الذين قضوا نحبهم ,بطريقة ما ؟



<< Home

This page is powered by Blogger. Isn't yours?

Extreme Tracker
Links
archives