Friday, January 30, 2004
الثلاثاء 27/1
منذ عدة أيام ..أعاني من ألم في قدمي عند الوقوف ....ودققت في مكان الألم فوجدته بداية لما يسمى مسمار قدم ...ربما سببه الوقوف الطويل في المطبخ أحيانا..
طبعا لا بد من زيارة للطبيب ...وهو الشيء الذي أظل اؤجله أياما حتى يصبح الأمر اجباريا..
فاتصلت بالسائق الذي يرافقني بهكذا جولات ...كنت قبل الحرب أذهب لوحدي في مشاوير بعد الظهر ..لكن الحال الآن يختلف حيث لا أمان بعد ...
يوجد طبيب جلدية واحد سبق أن تعاملت معه وكان مريحا... لكنه في عمارة فيها مجمع طبي ما عدت أحب زيارته لسبب واحد ..
وصلت السيارة الى المكان المحدد...قلت للسائق ابحث عن مكان آمن عليه حراسة ..ثم انتظرني .أنا في الطابق الثاني ..
مشيت على الرصيف بتردد ...نظرت الى محل االصيدلانية صديقتي فوجدته مغلقا ..سألت محل العصير الذي بجانبها عن موعد الدوام ..وأشرت بأصبعي ...فقال لا يفتحون !...قلت اليوم فقط أم كل يوم ؟..قال لايفتحون أبدا , وسمعت أنهم سيعرضونها للبيع ...
انقبض قلبي ....اذن الحادثة ما زالت تحصد ثمارها ..قلت في نفسي ...وطبيب الجلدية ..موجود ؟..سألته فهز رأسه بحماسة وقال نعم تفضلي السكرتير موجود ...
الوقت مساء ..سمعت أذان المغرب قبل قليل ..وبدأ الظلام يزحف ...بدأت بصعود درجات السلم يحذر ..كانت البناية شبه فارغة ...هذه أول مرة أراها هكذا ...فمنذ دخلت بغداد عام 1991 وأنا أتردد على هذه البناية كلما مرضت أو مرض أحد من العائلة ...فيها أطباء أسنان ..وطبيب جلدية ..وطبيب باطنية .
وكلهم أصدقاء أخوتي وتخرجوا معهم من جامعة بغداد ..وتخصصوا في بريطانيا أو أميركا ...وكلهم يملكون سمعة مهنية ممتازة وكذلك أخلاقهم مع الناس ...وكلهم أساتذة جامعيون ..ما عدا الدكتور محمد فقد كان العميد لكلية الطب ونقيب الأطباء .. وكان أكثرهم ذكاء في تخصصه ..والبناية دائما مكتظة من زبائنه الذين يفترشون الرصيف منذ الظهيرة خصوصا القادمين من محافظات بعيدة ...وسكرتيرته كانت توزع زبائنه على عيادات أطباء الاسنان في نفس الطابق لينتظروا دورهم , لأنهم أصدقاء الدكتور ولا حرج في ذلك ...هذه الأخلاق العراقية التقليدية ...الصداقة والمحبة أهم من المادة ..أو المنافسة .
وكنت بصعوبة أحصل على موعد رغم ان السكرتيرة صارت تعرفني ..أتصل هاتفيا وتعطيني الموعد ..عادة غدا أو بعد غد ...واحيانا نادرة اليوم لكن متأخر قليلا ...يعني حوالي التاسعة والنصف أي قبل اغلاق العيادة ...وطبعا أوافق فالمرض لا يحتمل التأجيل ...
ثم أنزل للصيدلية ..فأجدها مكتظة أيضا من زبائن الدكنور محمد ..وباقي الأطباء.
أما اليوم فأجد البناية موحشة ..والصيدلية مغلقة ..وثمة زبائن قليلون يتهامسون في الممرات كأنهم يشاركون البناية حزنها على ما حدث ...
دخلت عيادة الجلدية ..وكان السكرتير العجوز هو نفسه لم يتغير ...بوجهه الحزين وابتسامته المنكسرة كأنها تروي قصة شقائه .. التي سمعتها مرارا وأنا أنتظر دوري عند الطبيب .
لم نراك منذ زمن ؟ قال العجوز ...تصنعت ابتسامة وقلت ..لا أدري ..لا أحب أن أدخل البناية بعد الذي حصل للدكتور محمد ....بان على وجهه الحزن وقال ....اي...الله يرحمه ..
قلت متى كانت الحادثة بالضبط في تموز أو آب ؟...ما عدت أتذكر .. قال في تموز ..حوالي منتصف الشهر وكان الوقت مساء والعيادة مكتظة بالزبائن ...ثم دخل اثنان وقال أحدهما للسكرتيرة ان صاحبه مريض ومستعجل وحالته صعبة وعنده ألم في بطنه ...فدخلت على الطبيب تستأذن ..فسمح لها أن تدخله للفحص ...وبين دهشة السكرتيرة والمرضى أخرج هذا المريض الوهمي مسدسا وأطلق النار على الطبيب في رأسه ...ونزل فورا مع صاحبه حيث سيارة تنتظرهما بعد اتمام المهمة ..ثم اختفوا عن الأنظار ....
وسألت .ألم يكتشفوا بعد من اعتدى عليه ؟...هز رأسه ..لا أحد يعرف ... وهل مات في العيادة ؟ ...لا مات في المستشفى بعد نصف ساعة ...
ألم تعرفوا السبب ؟ ....يقولون انه بعثي ! قال العجوز بحزن ...واذا بعثي ؟ لم يؤذ أحدا ..كان مسالما وكل الناس تحبه ..قالها العجوز بحزن وانكسار كأنه يحاور نفسه....
صمت ولم أجب..وقلت في نفسي أشهد معك انه كان مسالما وكل الناس تحبه ..و انه كان عقلا ذكيا جميلا خسرناه....
لكن الذي قتله لا يعلم ...أضاف العجوز ..دفعوا له الثمن وقالوا اذهب واقتله ..أنه بعثي ..ما يدريه ؟
بقيت مطرقة نحو الأرض ...حقا ما يدريه ذلك القاتل المأجور ماذا فعل ؟؟
عدت وسألت ..والعيادة .؟..
قال ..زوجته تعرضها للبيع ...كم قالت له سافر ولا تبقى الوضع غير آمن ....لكنه رفض ..كان يقول أنا لم أفعل شيئا ولم أؤذ أحد فلماذا أخاف ؟.....
انقطع سيل الحديث حيث وصل طبيب الجلدية ..ودخلت كأول زبونة.. ووجدته حزينا هو الآخر وقال انه أغلق العيادة حزنا على الدكتور محمد لثلاثة شهور ..وانه لا يصدق ما حدث ..فقد كانت ضربة قاسية لكل الذين يعرفونه ...ثم سألني عما أعانيه من مشكلة ..وكتب لي مرهم تحضير مناسب لعلاج مسمار القدم ووصف لي صيدلية أخرى لأن هذه التي في البناية أغلقت صيدليتها حزنا عليه ...
عندما بأت نزول درجات السلم ,عائدة الى السيارة , وجدت باب عيادته مغلقا ..
والطابق كله فارغ وموحش....ونظرت الى جدران السلم ...تخيلتهم وهم يحملونه مسرعين الى أقرب مستشفى...والدم يسيل على الدرجات....وهرولت أقدامي في النزول من شدة الخوف...
ربما دمه ما زال على سجاد العياده ...من يجرؤ على دخولها بعد الذي حصل ؟..تمتمت في نفسي ..
ترى كم دفعوا للذي قتله ؟...
وكم دمعة من مرضاه أو طلابه سكبت من أجله؟...
لكني كأني أراه يوم القيامة...واقفا وخصمه أمامه..بدون مسدس ,..وأمام رب العالمين .,.يسأله وابتسامة على شفتيه
لماذا قتلتني ؟؟؟ وماذا فعلت لك ؟
******
عندما وصلت الرصيف ..بدا المكان كئيبا مهجورا .. كأن لمسة من حياة وحيوية قد اختفت فجأة .وحدقت في أقفال الصيدلية مرة أخرى ...وفي أكياس القمامة المبعثرة على الرصيف...فزاد شعوري بالوحشة...وتمنيت انني لم آت الى هنا ...
سأبحث عن طبيب جلدية آخر.....فكرت في نفسي ..
.ثم أحسست أنني أغرق في دوامة من الأسئلة ...
*****
منذ عدة أيام ..أعاني من ألم في قدمي عند الوقوف ....ودققت في مكان الألم فوجدته بداية لما يسمى مسمار قدم ...ربما سببه الوقوف الطويل في المطبخ أحيانا..
طبعا لا بد من زيارة للطبيب ...وهو الشيء الذي أظل اؤجله أياما حتى يصبح الأمر اجباريا..
فاتصلت بالسائق الذي يرافقني بهكذا جولات ...كنت قبل الحرب أذهب لوحدي في مشاوير بعد الظهر ..لكن الحال الآن يختلف حيث لا أمان بعد ...
يوجد طبيب جلدية واحد سبق أن تعاملت معه وكان مريحا... لكنه في عمارة فيها مجمع طبي ما عدت أحب زيارته لسبب واحد ..
وصلت السيارة الى المكان المحدد...قلت للسائق ابحث عن مكان آمن عليه حراسة ..ثم انتظرني .أنا في الطابق الثاني ..
مشيت على الرصيف بتردد ...نظرت الى محل االصيدلانية صديقتي فوجدته مغلقا ..سألت محل العصير الذي بجانبها عن موعد الدوام ..وأشرت بأصبعي ...فقال لا يفتحون !...قلت اليوم فقط أم كل يوم ؟..قال لايفتحون أبدا , وسمعت أنهم سيعرضونها للبيع ...
انقبض قلبي ....اذن الحادثة ما زالت تحصد ثمارها ..قلت في نفسي ...وطبيب الجلدية ..موجود ؟..سألته فهز رأسه بحماسة وقال نعم تفضلي السكرتير موجود ...
الوقت مساء ..سمعت أذان المغرب قبل قليل ..وبدأ الظلام يزحف ...بدأت بصعود درجات السلم يحذر ..كانت البناية شبه فارغة ...هذه أول مرة أراها هكذا ...فمنذ دخلت بغداد عام 1991 وأنا أتردد على هذه البناية كلما مرضت أو مرض أحد من العائلة ...فيها أطباء أسنان ..وطبيب جلدية ..وطبيب باطنية .
وكلهم أصدقاء أخوتي وتخرجوا معهم من جامعة بغداد ..وتخصصوا في بريطانيا أو أميركا ...وكلهم يملكون سمعة مهنية ممتازة وكذلك أخلاقهم مع الناس ...وكلهم أساتذة جامعيون ..ما عدا الدكتور محمد فقد كان العميد لكلية الطب ونقيب الأطباء .. وكان أكثرهم ذكاء في تخصصه ..والبناية دائما مكتظة من زبائنه الذين يفترشون الرصيف منذ الظهيرة خصوصا القادمين من محافظات بعيدة ...وسكرتيرته كانت توزع زبائنه على عيادات أطباء الاسنان في نفس الطابق لينتظروا دورهم , لأنهم أصدقاء الدكتور ولا حرج في ذلك ...هذه الأخلاق العراقية التقليدية ...الصداقة والمحبة أهم من المادة ..أو المنافسة .
وكنت بصعوبة أحصل على موعد رغم ان السكرتيرة صارت تعرفني ..أتصل هاتفيا وتعطيني الموعد ..عادة غدا أو بعد غد ...واحيانا نادرة اليوم لكن متأخر قليلا ...يعني حوالي التاسعة والنصف أي قبل اغلاق العيادة ...وطبعا أوافق فالمرض لا يحتمل التأجيل ...
ثم أنزل للصيدلية ..فأجدها مكتظة أيضا من زبائن الدكنور محمد ..وباقي الأطباء.
أما اليوم فأجد البناية موحشة ..والصيدلية مغلقة ..وثمة زبائن قليلون يتهامسون في الممرات كأنهم يشاركون البناية حزنها على ما حدث ...
دخلت عيادة الجلدية ..وكان السكرتير العجوز هو نفسه لم يتغير ...بوجهه الحزين وابتسامته المنكسرة كأنها تروي قصة شقائه .. التي سمعتها مرارا وأنا أنتظر دوري عند الطبيب .
لم نراك منذ زمن ؟ قال العجوز ...تصنعت ابتسامة وقلت ..لا أدري ..لا أحب أن أدخل البناية بعد الذي حصل للدكتور محمد ....بان على وجهه الحزن وقال ....اي...الله يرحمه ..
قلت متى كانت الحادثة بالضبط في تموز أو آب ؟...ما عدت أتذكر .. قال في تموز ..حوالي منتصف الشهر وكان الوقت مساء والعيادة مكتظة بالزبائن ...ثم دخل اثنان وقال أحدهما للسكرتيرة ان صاحبه مريض ومستعجل وحالته صعبة وعنده ألم في بطنه ...فدخلت على الطبيب تستأذن ..فسمح لها أن تدخله للفحص ...وبين دهشة السكرتيرة والمرضى أخرج هذا المريض الوهمي مسدسا وأطلق النار على الطبيب في رأسه ...ونزل فورا مع صاحبه حيث سيارة تنتظرهما بعد اتمام المهمة ..ثم اختفوا عن الأنظار ....
وسألت .ألم يكتشفوا بعد من اعتدى عليه ؟...هز رأسه ..لا أحد يعرف ... وهل مات في العيادة ؟ ...لا مات في المستشفى بعد نصف ساعة ...
ألم تعرفوا السبب ؟ ....يقولون انه بعثي ! قال العجوز بحزن ...واذا بعثي ؟ لم يؤذ أحدا ..كان مسالما وكل الناس تحبه ..قالها العجوز بحزن وانكسار كأنه يحاور نفسه....
صمت ولم أجب..وقلت في نفسي أشهد معك انه كان مسالما وكل الناس تحبه ..و انه كان عقلا ذكيا جميلا خسرناه....
لكن الذي قتله لا يعلم ...أضاف العجوز ..دفعوا له الثمن وقالوا اذهب واقتله ..أنه بعثي ..ما يدريه ؟
بقيت مطرقة نحو الأرض ...حقا ما يدريه ذلك القاتل المأجور ماذا فعل ؟؟
عدت وسألت ..والعيادة .؟..
قال ..زوجته تعرضها للبيع ...كم قالت له سافر ولا تبقى الوضع غير آمن ....لكنه رفض ..كان يقول أنا لم أفعل شيئا ولم أؤذ أحد فلماذا أخاف ؟.....
انقطع سيل الحديث حيث وصل طبيب الجلدية ..ودخلت كأول زبونة.. ووجدته حزينا هو الآخر وقال انه أغلق العيادة حزنا على الدكتور محمد لثلاثة شهور ..وانه لا يصدق ما حدث ..فقد كانت ضربة قاسية لكل الذين يعرفونه ...ثم سألني عما أعانيه من مشكلة ..وكتب لي مرهم تحضير مناسب لعلاج مسمار القدم ووصف لي صيدلية أخرى لأن هذه التي في البناية أغلقت صيدليتها حزنا عليه ...
عندما بأت نزول درجات السلم ,عائدة الى السيارة , وجدت باب عيادته مغلقا ..
والطابق كله فارغ وموحش....ونظرت الى جدران السلم ...تخيلتهم وهم يحملونه مسرعين الى أقرب مستشفى...والدم يسيل على الدرجات....وهرولت أقدامي في النزول من شدة الخوف...
ربما دمه ما زال على سجاد العياده ...من يجرؤ على دخولها بعد الذي حصل ؟..تمتمت في نفسي ..
ترى كم دفعوا للذي قتله ؟...
وكم دمعة من مرضاه أو طلابه سكبت من أجله؟...
لكني كأني أراه يوم القيامة...واقفا وخصمه أمامه..بدون مسدس ,..وأمام رب العالمين .,.يسأله وابتسامة على شفتيه
لماذا قتلتني ؟؟؟ وماذا فعلت لك ؟
******
عندما وصلت الرصيف ..بدا المكان كئيبا مهجورا .. كأن لمسة من حياة وحيوية قد اختفت فجأة .وحدقت في أقفال الصيدلية مرة أخرى ...وفي أكياس القمامة المبعثرة على الرصيف...فزاد شعوري بالوحشة...وتمنيت انني لم آت الى هنا ...
سأبحث عن طبيب جلدية آخر.....فكرت في نفسي ..
.ثم أحسست أنني أغرق في دوامة من الأسئلة ...
*****