Thursday, January 15, 2004
السبت 10/1/004
اليوم أريد أن أغير اتجاه الحديث , وبناء على أسئلة كثيرة تصلني عبر البريد الإلكتروني ,ولغرض تخفيف الملل عني والشعور بالكآبة ولإحباط من الجو العام في العراق ...قررت أن يكون الحديث اليوم شخصيا وعن حياتنا اليومية...
هذه الأيام إمتحانات نصف السنة, لكل المراحل الدراسية . وهي عادة أيام عصيبة للعائلة, حيث الأولاد كل واحد يختبيء في غرفته , ولا يمكن أن تطلبي أي مساعدة منه , سيصرخ بعصبية عندي إمتحانات لا تتكلمو ا معي !
ويسهرون لأوقات متأخرة من الليل , ويستيقظون مبكرا لإتمام دراسة المادة , وبضغوط وتوسلات يتناولون الفطور , وتحذيرات بأنهم لن يستطيعوا الإجابة في الإمتحان إن لم يكن الفطور جيدا ...هذه تهديدات من ماما
وعادة يلبون المطالب ويركضون الى السيارة ويطلبون من ماما الأ تنساهم طوال النهار بالدعاء حتى تساعدهم على حسن الإجابة في الإمتحان ...
وأظل مشغولة البال قلقة عليهم حتى يعودوا لأطمئن وأرتاح ...ونبدأ من جديد والتفكير بالغد وما سيحمله معه !
لماذا تبدو الدنيا شيء محدد ومكرر؟
ففي الطفولة نحن مجرد مخلوقات بريئة ساذجة ..ثم نتعلم ونكبر ..وفي المراهقة مخلوقات كثيرة المشاكل والقلق لنفسها وأهلها ...ثم نكبر قليلا قليلا ونبدأ بالنضوج وتعلم المسؤولية , ونبدأ بالشعور بالراحة وهدوء النفس والإستقرار ...لكن أولادنا ينغصون هذا الهدوء..فيعود القلق يسكن نفوسنا من أجلهم وأجل مستقبلهم !
ألآن أتذكر أمي أبي , وأحس بمقدار الألم الذي عاشوه من أجل تربيتنا , والمصاعب التي واجهتهم وهم بدخول مادية محدودة وأطفال بأعداد كثيرة !
نحن الآن نعمل سوية أنا وعزام ودخل العائلة ممتاز والحمد لله , بعد سنوات شاقة من العمل في شركات عديدة وأوطان متنوعة. ثم , ودون أن نقصد وجدنا إن العمل هنا أفضل لإن السوق محتاج لمهارات وخبرات جديدة
وأرتباط الأولاد في الدراسة , جعلنا نبقى ...
ونحاول دائما تلبية إحتياجات البيت والأولاد , ونظل قلقين من المستقبل ....
لكني أظن ان الناس أيام زمان كانوا أهنأ بالا من اليوم ..كانت الدنيا أكثر أمانا وهدوءا .. ومفردات الحياة أقل تعقيدا واحلام الناس ساذجة بسيطة !
كنا ثمانية أطفال ..اربع بنات وأربعة أولاد . درسنا وتخرجنا من الجامعات (هندسة وطب وطب أسنان وصيدلة) ولم نكلف أهلنا مصاريف الدراسة ,فكل شيء كان مجانا ... وفي العيد الصغير يشترون لنا ملابس جديدة ونخبأها لنعود فنلبسها في العيد الكبير , حيث الميزانية لا تحتمل مصاريف وتبذير , وحيث العيدان بينهما عادة فترة قصيرة ....
وكان لأبي مكتبة في سوق قديم ببغداد لبيع الكتب والقرطاسية , إسمه سوق السراي , ما زال موجودا لحد الآن ,
وكان بيتنا قريبا من السوق , وكذلك المدارس . ونذهب أحيانا لنساعد أبي في البيع , ثم نرتعش ونخاف حين تأتي واحدة من معلماتنا تشتري أقلاما من أبي أو دفاتر , ونختبيء تحت الطاولة حتى لا ترانا ,... كنا نحترم مخلوقا إسمه معلم لأنه كان شيئا مقدسا غير ملوث بالآثام ...ولأنهن كن يحترمن أنفسهن ويدركن أن هذه مهنة تحمل مسؤولية تربية أجيال وليس فقط تعليم قراءة وكتابة !
وكنا عائلة متواضعة الدخل والمعيشة , نسكن في بيت متعدد الغرف , قديم التصميم , وفي الطابق السفلي مخزن لمكتبة أبي , فيه مئات الكتب , منها قصص وروايات , ومنها تاريخية ودينية , وتراثية واغاني قديمة !
وكنا ننزل للمخزن في العطلة الصيفية , ونغرق في قراءة الكتب , والمسكينة أمي تنادي وتصرخ ونحن لا نساعدها في أمور المنزل ....أتذكر هذا دائما حين يعذبني أولادي ! وأضحك وأقول ...هذا هو حال الدنيا ..تعذب أمك اليوم , فيأتي إبنك ليعذبك غدا ! إنها مسألة عدالة الهية !
وأمي كانت تقضي النهار في الطبخ وغسيل الملابس وتنظيف البيت , دون أن يكون لديها خادمة تساعدها أو أجهزة كهربائية منزلية ... وكانت تصحو في الصباح الباكر لتعمل االفطور لنا وتوقظنا من النوم وترسلنا الى المدارس وتذهب للسوق لشراء الخضار والفواكه واللحم لذلك اليوم فقط ... هكذا كانت الدنيا وكل الناس يعيشون
وتعلمت منها هذا النشاط , ولكني أجد نفسي مدللة بالنسبة لنساء ذلك الجيل . فقد حرمن من التعليم والعمل وتفرغن للبيت فقط . وهذه فيها حسنات ومساويء. كانت أمي تقول لنا أنتم أحسن مني لأنكم تعلمتم ولن تكن أسيرات سلطة الأزواج والأولاد وظلمهم عندما تكبرون , ولم نكن نفهم تماما ما تعني ولكن حين كبرنا ورأينا قسوة الحياة , والعمر يمضي , وكل واحد يريد أن يحقق طموحاته ,واحيانا لا يبالي بالآخر , بدأنا نفهم ....
أن تكون لنا إهتمامات وطموحات , شيء جميل يحسسنا بإنسانيتنا , دون أن نهمل بيوتنا وأولادنا , ودون أن تدخل الكآبة قلوبنا ونحس أننا مخلوقات لا فائدة منها فقد مضى عليها الزمن !
مات أبي و أمي منذ سنوات بعيدة ....ولكني ما زلت أتذكر كل التفاصيل ..وأندم على كل نصيحة قالوها لي ولم ألتزم بها ..وكل كلمة قلتها لهم بصوت عالي وجادلتهم بقسوة الشباب وحماستهم وحماقتهم !
والآن أضحك على نفسي حين أرى أولادي يعاندون ويناقشون...وأقول لهم أنا كنت مثلكم وأنتم بهذا العمر بلا تجربة ..ولكني عنيدة ومعتدة برأيي واظن نفسي أكثر واحدة تفهم في العالم , تماما كما تفعلون الآن...واتساءل في داخلي كم أمنية تحطمت ؟ وكم طموح لم أقدر أن أحققه ؟ وكم من أشياء ظننتها جميلة وأهلكت نفسي للحصول عليها ثم اكتشفت إنها محض أوهام وتفاهات.... وكم من سنين عمركم ستمضي وانتم تركضون وراء سراب ثم سراب حتى تعقلوا وتنضجوا وتكفوا عن هذه الحماقات ! ......
********
نسكن الآن في بيت مستقل وحديقة خارجية كبيرة . بغداد مدينة مستوية والبناء فيها أفقي والعمارات المرتفعة فيها قليلة , لأن ثمة متسع كثير للبناء , ومساحات واسعة موجودة ,لحد الآن ...
البيت واسع وفيه أربع غرف نوم وصالونات للجلوس والضيوف والطعام , ومطبخ كبير ومخزن , وثلاثة حمامات . عادة تأتي إمرأة تساعدني في تنظيف البيت ثلاث مرات في الأسبوع , لأن اليوم يمر بسرعة ولا أملك الوقت الكافي لإنجاز كل شيء . أخرج للدوام في المحل قبل العاشرة صباحا وأعود للبيت بعد الثانية ظهرا .
العمل يتضمن بيع أجهزة مختبرية مستوردة لفحوصات المياه , للشرب أو لمختبرات أولصناعات .
وكذلك منظومات فلاتر وتصفية وتعقيم للمياه . للأهالي أو منظمات أو دوائر دولة أو سفارات أو مستشفيات .
يأتي زبائن كثيرون ومن مختلف الأشكال والمستويات .أناقش مع الزبائن متطلباتهم من الأجهزة وأساعدهم في إختيار ما يناسبهم , إذا لم أكن مشغولة بتقديم عروض أسعار أو جرد موجودات المخزن من البضاعة . فيستلم مسؤولية العمل مع الزبائن مهندس آخر يعود لسؤالي إن صادف صعوبة ...
أنا المدير التنفيذي . وأتابع المبيعات والمخزن وكل تفاصيل العمل اليومية .. عندنا موظفون إداريون ومهندسون . أحب أن نكون أسرة أكثر مما زملاء عمل . ولكوني إمرأة فإنني أحب أن أكون مدللة ,يعني ثمة من يعتني بالمولدة ومشاكلهاوالبنزين والزيت , والصوبة وجرة الغاز والركض وراء عربتها والنقاش حول سعرها الغالي , وتسديد فواتير الماء والكهرباء والتلفون , وغسل الرصيف وإبقاءه نظيفا , وإعطاء الفلوس للشحادين (وما أكثرهم) توجد تعليمات مني بعدم طردهم , وتقسيمهم بجدول حسب الأيام ..
وأحيانا أكون مشغولة بالكومبيوتر , فلا أسمع ولا أنتبه , حتى تأتي صرخات إستغاثة قوية !
أتمنى أن أغلق المحل وأبقى مع الإنترنت أفتش عن مواقع لأجهزة برك السباحة ,ومواقع عن تلوث البيئة , ولا أعود للغداء حتى ! رائد يقول ماما يكفي ما بك هذا إدمان ! وأنا أبربر مع نفسي ... إنهم ثقلاء دم وينغصون علي لحظاتي السعيدة .
أتمنى دائما لو يكون النهار 48 ساعة أو 72 ساعة أوأكثر ... فهذه ال24 تنقضي بسرعة ولم أفعل بعد شيئا !
******
أما الجيران , فدائما يعتبون إنني مختفية , واعتذر من قلة الوقت . كلهن تقريبا ربات بيوت . وعندما نجتمع يسألوني عن آخر الأخبار بإعتبار إنهن محبوسات في البيوت ولا جديد لديهن , فأحكي لهن قصصا مختلفة عما سمعت ورأيت خلال أيامي السابقة , ونضحك ونشرب شاي وناكل معه ,معجنات أو كيك ..
ونتناقش في أمور السياسة والوضع العام , أحيانا نتفق وأحيانا نتعارك .... حسب المزاج .
جارتي التي على اليسار كانت بعثية هي وزوجها , وكانوا شبه معزولين , ولا أحد يحبهم , والآن زادت عزلتهم ولا نراهم ...
جيراني التي على اليمين , تم تسفير معظم أهلها الى إيران , أثناء الحرب الإيرانية وإجتهادات صدام العظيمة في حل المشاكل . وكذلك أعدم أخوها ...
جارتي التي على يمينها أعدم صدام أخوها ...
جارتي التي بعدها ,هاجر إخوتها معظمهم الى الخارج هربا من صدام لأنهم كانوا شيوعيين .
والذين خلفنا أعدم صدام عمهم لإنه إستضاف في بيته قريبه المنتمي لحزب الدعوة .
إنه تاريخ ملطخ !!
وطبعا كلهم يكرهونه ويسبون عليه ....
وفي لحظات الأسف على ما يحدث لنا ... نتذكر أيام الحرب ونضحك على أنفسنا ..واقول لقد خرجنا من حفرة ووقعنا في حفرة ..فتقاطعني احداهن ..لا ..لقد خرجنا من حفرة ووقعنا في بئر ..وننفجر بالضحك ....
*****
عندما أنتهي من الدوام , أمر على عدة محلات قبل العودة الى البيت , فأشتري الخضار والفواكه والأجبان والخبز , وآخذ الملابس للكوي , وكذلك شراء ما أحتاجه من شامبو وأدوات تجميل من محل محدد بضاعته غير مغشوشة! وكذلك تصليح الساعات أو إستبدال البطاريات, وشراء شراشف أو بطانيات للبيت , وبنود أخرى لا تتكرر كل يوم , لكني أسرع بإنجازها , لأنني أكون جائعة تماما وقد اقترب وقت الغداء.
بعد الغداء إما أنام قليلا أو أقرأ او أجلس على الإنترنت. وفي المساء , ,إ ما أذهب لإحدى الجارات أو أنزل مع سائق الى السوق لشراء ملابس أو أحذية حسب المناسبات أو زيارة الطبيب أو اقص شعري أو زيارة واحدة من أخواتي . ثم بعد الثامنة يأتي وقت العشاء ونجتمع ثانية ولكن أمام التلفزيون , والأولاد يأكلون ويضحكون وهم محدقون في الشاشة ,....
هذه أسعد لحظات حياتي , عندما يقفل الباب الخارجي والعائلة مجتمعة تتناول العشاء والعدد كامل ,لا أحد في الخارج أو مسافر ....
وأظنها كذلك لكل الأمهات في العالم ...
لذلك أكره الحروب والكوارث لأنها تفرق العائلة الواحدة ...
أتمنى السلام لكل العالم ..ولكل الأمهات .....
ولو كان الأمر بيد النساء لما قامت الحروب في العالم , حبا في أزواجهن وأولادهن وإخوانهن و آبائهن .....******
اليوم أريد أن أغير اتجاه الحديث , وبناء على أسئلة كثيرة تصلني عبر البريد الإلكتروني ,ولغرض تخفيف الملل عني والشعور بالكآبة ولإحباط من الجو العام في العراق ...قررت أن يكون الحديث اليوم شخصيا وعن حياتنا اليومية...
هذه الأيام إمتحانات نصف السنة, لكل المراحل الدراسية . وهي عادة أيام عصيبة للعائلة, حيث الأولاد كل واحد يختبيء في غرفته , ولا يمكن أن تطلبي أي مساعدة منه , سيصرخ بعصبية عندي إمتحانات لا تتكلمو ا معي !
ويسهرون لأوقات متأخرة من الليل , ويستيقظون مبكرا لإتمام دراسة المادة , وبضغوط وتوسلات يتناولون الفطور , وتحذيرات بأنهم لن يستطيعوا الإجابة في الإمتحان إن لم يكن الفطور جيدا ...هذه تهديدات من ماما
وعادة يلبون المطالب ويركضون الى السيارة ويطلبون من ماما الأ تنساهم طوال النهار بالدعاء حتى تساعدهم على حسن الإجابة في الإمتحان ...
وأظل مشغولة البال قلقة عليهم حتى يعودوا لأطمئن وأرتاح ...ونبدأ من جديد والتفكير بالغد وما سيحمله معه !
لماذا تبدو الدنيا شيء محدد ومكرر؟
ففي الطفولة نحن مجرد مخلوقات بريئة ساذجة ..ثم نتعلم ونكبر ..وفي المراهقة مخلوقات كثيرة المشاكل والقلق لنفسها وأهلها ...ثم نكبر قليلا قليلا ونبدأ بالنضوج وتعلم المسؤولية , ونبدأ بالشعور بالراحة وهدوء النفس والإستقرار ...لكن أولادنا ينغصون هذا الهدوء..فيعود القلق يسكن نفوسنا من أجلهم وأجل مستقبلهم !
ألآن أتذكر أمي أبي , وأحس بمقدار الألم الذي عاشوه من أجل تربيتنا , والمصاعب التي واجهتهم وهم بدخول مادية محدودة وأطفال بأعداد كثيرة !
نحن الآن نعمل سوية أنا وعزام ودخل العائلة ممتاز والحمد لله , بعد سنوات شاقة من العمل في شركات عديدة وأوطان متنوعة. ثم , ودون أن نقصد وجدنا إن العمل هنا أفضل لإن السوق محتاج لمهارات وخبرات جديدة
وأرتباط الأولاد في الدراسة , جعلنا نبقى ...
ونحاول دائما تلبية إحتياجات البيت والأولاد , ونظل قلقين من المستقبل ....
لكني أظن ان الناس أيام زمان كانوا أهنأ بالا من اليوم ..كانت الدنيا أكثر أمانا وهدوءا .. ومفردات الحياة أقل تعقيدا واحلام الناس ساذجة بسيطة !
كنا ثمانية أطفال ..اربع بنات وأربعة أولاد . درسنا وتخرجنا من الجامعات (هندسة وطب وطب أسنان وصيدلة) ولم نكلف أهلنا مصاريف الدراسة ,فكل شيء كان مجانا ... وفي العيد الصغير يشترون لنا ملابس جديدة ونخبأها لنعود فنلبسها في العيد الكبير , حيث الميزانية لا تحتمل مصاريف وتبذير , وحيث العيدان بينهما عادة فترة قصيرة ....
وكان لأبي مكتبة في سوق قديم ببغداد لبيع الكتب والقرطاسية , إسمه سوق السراي , ما زال موجودا لحد الآن ,
وكان بيتنا قريبا من السوق , وكذلك المدارس . ونذهب أحيانا لنساعد أبي في البيع , ثم نرتعش ونخاف حين تأتي واحدة من معلماتنا تشتري أقلاما من أبي أو دفاتر , ونختبيء تحت الطاولة حتى لا ترانا ,... كنا نحترم مخلوقا إسمه معلم لأنه كان شيئا مقدسا غير ملوث بالآثام ...ولأنهن كن يحترمن أنفسهن ويدركن أن هذه مهنة تحمل مسؤولية تربية أجيال وليس فقط تعليم قراءة وكتابة !
وكنا عائلة متواضعة الدخل والمعيشة , نسكن في بيت متعدد الغرف , قديم التصميم , وفي الطابق السفلي مخزن لمكتبة أبي , فيه مئات الكتب , منها قصص وروايات , ومنها تاريخية ودينية , وتراثية واغاني قديمة !
وكنا ننزل للمخزن في العطلة الصيفية , ونغرق في قراءة الكتب , والمسكينة أمي تنادي وتصرخ ونحن لا نساعدها في أمور المنزل ....أتذكر هذا دائما حين يعذبني أولادي ! وأضحك وأقول ...هذا هو حال الدنيا ..تعذب أمك اليوم , فيأتي إبنك ليعذبك غدا ! إنها مسألة عدالة الهية !
وأمي كانت تقضي النهار في الطبخ وغسيل الملابس وتنظيف البيت , دون أن يكون لديها خادمة تساعدها أو أجهزة كهربائية منزلية ... وكانت تصحو في الصباح الباكر لتعمل االفطور لنا وتوقظنا من النوم وترسلنا الى المدارس وتذهب للسوق لشراء الخضار والفواكه واللحم لذلك اليوم فقط ... هكذا كانت الدنيا وكل الناس يعيشون
وتعلمت منها هذا النشاط , ولكني أجد نفسي مدللة بالنسبة لنساء ذلك الجيل . فقد حرمن من التعليم والعمل وتفرغن للبيت فقط . وهذه فيها حسنات ومساويء. كانت أمي تقول لنا أنتم أحسن مني لأنكم تعلمتم ولن تكن أسيرات سلطة الأزواج والأولاد وظلمهم عندما تكبرون , ولم نكن نفهم تماما ما تعني ولكن حين كبرنا ورأينا قسوة الحياة , والعمر يمضي , وكل واحد يريد أن يحقق طموحاته ,واحيانا لا يبالي بالآخر , بدأنا نفهم ....
أن تكون لنا إهتمامات وطموحات , شيء جميل يحسسنا بإنسانيتنا , دون أن نهمل بيوتنا وأولادنا , ودون أن تدخل الكآبة قلوبنا ونحس أننا مخلوقات لا فائدة منها فقد مضى عليها الزمن !
مات أبي و أمي منذ سنوات بعيدة ....ولكني ما زلت أتذكر كل التفاصيل ..وأندم على كل نصيحة قالوها لي ولم ألتزم بها ..وكل كلمة قلتها لهم بصوت عالي وجادلتهم بقسوة الشباب وحماستهم وحماقتهم !
والآن أضحك على نفسي حين أرى أولادي يعاندون ويناقشون...وأقول لهم أنا كنت مثلكم وأنتم بهذا العمر بلا تجربة ..ولكني عنيدة ومعتدة برأيي واظن نفسي أكثر واحدة تفهم في العالم , تماما كما تفعلون الآن...واتساءل في داخلي كم أمنية تحطمت ؟ وكم طموح لم أقدر أن أحققه ؟ وكم من أشياء ظننتها جميلة وأهلكت نفسي للحصول عليها ثم اكتشفت إنها محض أوهام وتفاهات.... وكم من سنين عمركم ستمضي وانتم تركضون وراء سراب ثم سراب حتى تعقلوا وتنضجوا وتكفوا عن هذه الحماقات ! ......
********
نسكن الآن في بيت مستقل وحديقة خارجية كبيرة . بغداد مدينة مستوية والبناء فيها أفقي والعمارات المرتفعة فيها قليلة , لأن ثمة متسع كثير للبناء , ومساحات واسعة موجودة ,لحد الآن ...
البيت واسع وفيه أربع غرف نوم وصالونات للجلوس والضيوف والطعام , ومطبخ كبير ومخزن , وثلاثة حمامات . عادة تأتي إمرأة تساعدني في تنظيف البيت ثلاث مرات في الأسبوع , لأن اليوم يمر بسرعة ولا أملك الوقت الكافي لإنجاز كل شيء . أخرج للدوام في المحل قبل العاشرة صباحا وأعود للبيت بعد الثانية ظهرا .
العمل يتضمن بيع أجهزة مختبرية مستوردة لفحوصات المياه , للشرب أو لمختبرات أولصناعات .
وكذلك منظومات فلاتر وتصفية وتعقيم للمياه . للأهالي أو منظمات أو دوائر دولة أو سفارات أو مستشفيات .
يأتي زبائن كثيرون ومن مختلف الأشكال والمستويات .أناقش مع الزبائن متطلباتهم من الأجهزة وأساعدهم في إختيار ما يناسبهم , إذا لم أكن مشغولة بتقديم عروض أسعار أو جرد موجودات المخزن من البضاعة . فيستلم مسؤولية العمل مع الزبائن مهندس آخر يعود لسؤالي إن صادف صعوبة ...
أنا المدير التنفيذي . وأتابع المبيعات والمخزن وكل تفاصيل العمل اليومية .. عندنا موظفون إداريون ومهندسون . أحب أن نكون أسرة أكثر مما زملاء عمل . ولكوني إمرأة فإنني أحب أن أكون مدللة ,يعني ثمة من يعتني بالمولدة ومشاكلهاوالبنزين والزيت , والصوبة وجرة الغاز والركض وراء عربتها والنقاش حول سعرها الغالي , وتسديد فواتير الماء والكهرباء والتلفون , وغسل الرصيف وإبقاءه نظيفا , وإعطاء الفلوس للشحادين (وما أكثرهم) توجد تعليمات مني بعدم طردهم , وتقسيمهم بجدول حسب الأيام ..
وأحيانا أكون مشغولة بالكومبيوتر , فلا أسمع ولا أنتبه , حتى تأتي صرخات إستغاثة قوية !
أتمنى أن أغلق المحل وأبقى مع الإنترنت أفتش عن مواقع لأجهزة برك السباحة ,ومواقع عن تلوث البيئة , ولا أعود للغداء حتى ! رائد يقول ماما يكفي ما بك هذا إدمان ! وأنا أبربر مع نفسي ... إنهم ثقلاء دم وينغصون علي لحظاتي السعيدة .
أتمنى دائما لو يكون النهار 48 ساعة أو 72 ساعة أوأكثر ... فهذه ال24 تنقضي بسرعة ولم أفعل بعد شيئا !
******
أما الجيران , فدائما يعتبون إنني مختفية , واعتذر من قلة الوقت . كلهن تقريبا ربات بيوت . وعندما نجتمع يسألوني عن آخر الأخبار بإعتبار إنهن محبوسات في البيوت ولا جديد لديهن , فأحكي لهن قصصا مختلفة عما سمعت ورأيت خلال أيامي السابقة , ونضحك ونشرب شاي وناكل معه ,معجنات أو كيك ..
ونتناقش في أمور السياسة والوضع العام , أحيانا نتفق وأحيانا نتعارك .... حسب المزاج .
جارتي التي على اليسار كانت بعثية هي وزوجها , وكانوا شبه معزولين , ولا أحد يحبهم , والآن زادت عزلتهم ولا نراهم ...
جيراني التي على اليمين , تم تسفير معظم أهلها الى إيران , أثناء الحرب الإيرانية وإجتهادات صدام العظيمة في حل المشاكل . وكذلك أعدم أخوها ...
جارتي التي على يمينها أعدم صدام أخوها ...
جارتي التي بعدها ,هاجر إخوتها معظمهم الى الخارج هربا من صدام لأنهم كانوا شيوعيين .
والذين خلفنا أعدم صدام عمهم لإنه إستضاف في بيته قريبه المنتمي لحزب الدعوة .
إنه تاريخ ملطخ !!
وطبعا كلهم يكرهونه ويسبون عليه ....
وفي لحظات الأسف على ما يحدث لنا ... نتذكر أيام الحرب ونضحك على أنفسنا ..واقول لقد خرجنا من حفرة ووقعنا في حفرة ..فتقاطعني احداهن ..لا ..لقد خرجنا من حفرة ووقعنا في بئر ..وننفجر بالضحك ....
*****
عندما أنتهي من الدوام , أمر على عدة محلات قبل العودة الى البيت , فأشتري الخضار والفواكه والأجبان والخبز , وآخذ الملابس للكوي , وكذلك شراء ما أحتاجه من شامبو وأدوات تجميل من محل محدد بضاعته غير مغشوشة! وكذلك تصليح الساعات أو إستبدال البطاريات, وشراء شراشف أو بطانيات للبيت , وبنود أخرى لا تتكرر كل يوم , لكني أسرع بإنجازها , لأنني أكون جائعة تماما وقد اقترب وقت الغداء.
بعد الغداء إما أنام قليلا أو أقرأ او أجلس على الإنترنت. وفي المساء , ,إ ما أذهب لإحدى الجارات أو أنزل مع سائق الى السوق لشراء ملابس أو أحذية حسب المناسبات أو زيارة الطبيب أو اقص شعري أو زيارة واحدة من أخواتي . ثم بعد الثامنة يأتي وقت العشاء ونجتمع ثانية ولكن أمام التلفزيون , والأولاد يأكلون ويضحكون وهم محدقون في الشاشة ,....
هذه أسعد لحظات حياتي , عندما يقفل الباب الخارجي والعائلة مجتمعة تتناول العشاء والعدد كامل ,لا أحد في الخارج أو مسافر ....
وأظنها كذلك لكل الأمهات في العالم ...
لذلك أكره الحروب والكوارث لأنها تفرق العائلة الواحدة ...
أتمنى السلام لكل العالم ..ولكل الأمهات .....
ولو كان الأمر بيد النساء لما قامت الحروب في العالم , حبا في أزواجهن وأولادهن وإخوانهن و آبائهن .....******